معروف في تاريخ السينما الهوليوودية في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، أن أفضل ضروب التجديد، في الأشكال الفنية للأفلام، كما في مواضيعها وإن في حدود أقل، أتت بفضل مجموعة كبيرة من مخرجين، وأحياناً ممثلين وفنيين آخرين، أتوا من بلدان أوروبا الوسطى لينخرطوا في اللعبة الهوليوودية، محدثين فيها ما يعتبره البعض «ثورة فنية أولى» على اعتبار أن «الثورة الثانية» أتت من طريق «أصحاب اللحى» الذين ثوروا هوليوود في تلك السبعينات، لكن هذه حكاية أخرى. ما يهمنا هنا هو ذلك التجديد الذي أدخله إلى السينما الأميركية، خلال ثلث القرن الأول من عمرها، فنانون نمسويون وألمان وتشيخيون ورومانيون، بل حتى روسيا وبولنديون، فروا إلى أميركا هرباً من النازية أو سعياً وراء آفاق جديدة. ومع هؤلاء خرجت سينما هوليوود عهدذاك من أحاديتها وصارت أكثر تنوعاً وتركيبية، وبدأت تعلو أسهم «سينما المؤلف» والسينما الجادة، من دون أن تغرق تلك الأسهم لسينما هوليوود في نزعات ثقافية تنفر الجمهور العريض. من أولئك الذين قصدوا هوليوود على ذلك النحو النمسوي أوتو بريمنغر، الذي كان أصلاً من أهل الثقافة والمسرح الطليعي، تلميذاً لماكس رينهاردت، ثم اتجه إلى السينما شيئاً فشيئاً. وهو كان عند بداية احتكاكه بالفن السابع في ألمانيا والنمسا، حين انتقل إلى أميركا، ليبدأ مساراً سينمائياً تميز دائماً بجديته. لكنه تميز خصوصاً بكونه جمع بين التعابير الفنية المستقاة من ثقافة وسط أوروبا الطليعية، وبين نماذج وأنماط سينمائية أميركية عرف كيف يتمثلها تماماً، فيحقق توليفة اشتهر بها، من دون أن يعتبر - على أي حال - عملاقاً كبيراً من عمالقة هوليوود. ولعل فيلم «لاورا» الذي حققه بريمنغر، في عام 1944، يعتبر خير أنموذج على تلك التوليفة. للوهلة الأولى يمكن للمرء حين يشاهد «لاورا» أن يرى فيه فيلماً أميركياً نمطياً، من النوع البوليسي التشويقي الذي كان يكثر إنتاجه في ذلك الحين. ومن المعروف أن العناصر الرئيسة التي تشكل ذلك النمط هو الحضور - اللغز للمرأة الفاتنة، لعبة الاختفاء، الخبطة المسرحية، المدينة الحديثة، والجريمة بما يتبعها من تحقيق يجعل من المحقق نفسه بطل العمل، وأحياناً جلاده أو ضحيته أو الاثنين معاً. كل هذا موجود في «لاورا» في شكل أو في آخر. غير أن المرء إذ يشاهد هذا الفيلم ويقرأه في شكل أعمق وأفضل، سيلمح خلف هذا كله، في التشكيل كما في الموضوع، ملامح تعبيرية أكيدة وازدواجية في المعاني وإيهاما في دور الشخصيات يقرب العمل ككل إلى نوع من الفن التعبيري الألماني، حتى وإن كان بريمنغر نفسه سيقول في غير مناسبة أن هذا لم يكن مقصوداً من قبله. وهذا صحيح، لأن الرجل حين حقق فيلماً أميركياً كان طبيعياً له أن يصب فيه مواهبه ومكتسباته الثقافية وقد آلى على نفسه ألا يكون شغله على فيلمه مجرد اجتهاد مهني. حبكة فيلم «لاورا» حبكة بوليسية تكاد تكون تقليدية. فمنذ البداية لدينا الحسناء لاورا، إحدى فتيات المجتمع المتطلعات إلى النجاح المهني في عالم الفن والصورة وفي شكل أكثر عمومية، في عالم الثقافة ذات البعد الاجتماعي. ولاورا، يساعدها في صعودها الواعد صحافي طموح يدعى والدو لايدكر، يتولى مسؤولية الأخبار الاجتماعية في الصحيفة التي يعمل فيها... وله مكانة في مجتمع نيويورك. لكن لاورا، تقتل في شكل مفاجئ ويكلف المحقق ماكفرسون بالتحقيق في تلك الجريمة التي وقعت فيما لاورا تستعد للزواج من «البلايبوي» شلبي كاربنتر. وإذ يبدأ ماكفرسون تحقيقاته ويشاهد لوحة كبيرة تمثل لاورا واقفة تنظر بقوة وحنان، يجد نفسه واقعاً من فوره في غرام الفاتنة القتيلة... وهنا يتحول الفيلم من عمل بوليسي يقوم على أساس التحقيق في جريمة قتل، إلى حكاية غرام مستحيلة بين المحقق والضحية. ولكن، من ذا الذي سيتمكن أن يصر حتى النهاية على أن ذلك الغرام مستحيل؟ فالحقيقة أن لاورا، سرعان ما تظهر أمام ماكفرسون حية ترزق بكل جاذبيتها وفتنتها ذات ليلة. وإذ يبدو الرجل قد ظن أن من يظهر له إنما هو شبح لاورا، يدرك بسرعة أن من أمامه هي لاورا الحقيقية التي لم يتمكن القاتل من النيل منها، بل قتل بديلة لها وهو يعتقد أن البديلة لاورا... ويتبين أن القتيلة كانت صديقة لكاربنتر، خطيب لاورا، وهنا يصبح على ماكفرسون أن يتابع تحقيقاته سائراً بها في اتجاهات أخرى. ويشغل باله السؤال عما إذا كانت لاورا هي التي قتلت من يفترض أنها غريمتها على قلب كاربنتر: هل لاورا هي القاتلة؟ أم ترى أن القاتل هو الخطيب كاربنتر؟ والحال أن ما يقود خطى ماكفرسون من الآن وصاعداً في تحقيقه، لا يعود البحث البريء والمهني عن الحقيقة، بل الهيام بلاورا، التي إذ يطلب منها عدم الظهور حتى يحل لغز الجريمة، يزداد إيمانه ببراءتها. وفي نهاية الأمر لا يخيب ظنه، ذلك أن الحقيقة ستنكشف ويتبين - عبر لعبة ذكية يختتم بها الفيلم - أن القاتل الحقيقي إنما هو لايدكر، الذي كان مغرماً بلاورا، في تكتم، ولم يعد في مقدوره أن يحتمل زواجها من كاربنتر وتخليها عنه وعن غرامه بها. وهنا يتمكن ماكفرسون من الكشف عن هوية هذا القاتل المغرم، في الوقت الذي كان لايدكر يستعد لمعاودة قتل لاورا، من جديد إذ اكتشف أنها لم تمت في أول الأمر، وبالطريقة السابقة نفسها. من حول هذه الحبكة المشوقة والبوليسية بامتياز، صاغ أوتو بريمنغر، إذاً، موضوع هذا الفيلم المأخوذ أصلاً عن رواية بالاسم نفسه للكاتبة فيرا كاسباري، علماً أن منتج الفيلم داريل زانوك («فوكس للقرن العشرين») كان هو صاحب المشروع، وكان كعادته قد عرض الاشتغال عليه على عدد من المخرجين من بينهم روبن ماموليان، لكن اختياره وقع في النهاية على بريمنغر، الذي عاد واشتغل على السيناريو بحسب توجهاته الفنية الخاصة، فتحول العمل إلى مشروع خاص به هو الذي حين تحدث عن الفيلم لاحقاً قال: «فيما وراء الوقائع والحقائق البينة، كان ما يهمني حقاً هو أن أكشف الحقيقة التي يعبر عنها القلب». ومن هنا تنوع اهتمام النقاد بهذا الفيلم من حيث اعتباره بعضهم إياه حكاية بوليسية، والبعض الآخر حكاية غرامية، والبعض الثالث نظرة قاسية تلقى على عوالم المثقفين النيويوركيين. أما بالنسبة إلى صاحبه فإنه كان «فيلماً يحمل أبعاداً عدة كما يجدر بكل فيلم حقيقي أن يفعل، كما كان بالنسبة إليه ذريعة للاهتمام بحقيقة الشخصيات، أكثر مما بضرورة التبسيط لخدمة ألعاب بصرية متحذلقة». أوتو بريمنغر (1906-1986) كان واحداً من أبرز مبدعي السينما المشوقة في هوليوود... وهو كان يحب خصوصاً أن يقتبس أفلامه من روايات أو مسرحيات معروفة وسبق أن أثبتت نجاحها وقدرتها على الجذب. حتى وإن كانت الأوساط العربية غضبت عليه كثيراً حين حقق فيلم «أكسودس: الذي اعتبر في حينه فيلماً معادياً للفلسطينيين من خلال حكايته قصة السفينة الصهيونية المحملة باليهود القادمين إلى فلسطين والتي منعتها السلطات البريطانية من إنزال ركابها في حيفا. بيد أن هذا كان العمل «الباسي» الوحيد لمخرج خاض كل الأنواع من البوليسي («لاورا») إلى التاريخي («عنبر») إلى الكوميديا الموسيقية («كارمن جونز» و «بورغي وبس») وصولاً إلى الدراما الأدبية («صباح الخير أيها الحزن» عن فرانسواز ساغان) وإلى البوليفار. أما الأشهر بين أفلامه الأخيرة فهما «تشريح جريمة» و «عاصفة على واشنطن». [email protected]