قبل سنوات، حين سوجل المخرج الأميركي دايفيد فينشر في شأن الصحة التاريخية للاستنتاجات التي توصل اليه فيلمه «زودياك» المأخوذ من حكاية سفاح حقيقي، لم يفته أن يقول ان «ما في الفيلم قد يمكن اعتباره أقرب الى الحقيقة، لكنه يبقى في حدود الفرضية...»، مضيفاً: «علينا ألا ننسى اننا هنا امام فيلم سينمائي بعد كل شيء وقبل كل شيء»، «وبالتالي يجب ان نتذكر ان الفن ليس عليه ان يقدم إجابات قاطعة حاسمة. بل يتعين عليه فقط ان يطرح اسئلة ذكية ومثيرة...». والحال انه حتى وإن كان فينشر قد خرج عن هذا «القانون الجمالي» بين الحين والآخر، فإنه عرف دائماً وفي ما يزيد قليلاً عن نصف دزينة من أفلام ناجحة وجيدة حققها حتى الآن، كيف يقدم أعمالاً فنية تثير اسئلة مدهشة في بعض الأحيان. ومع هذا، يصعب كثيراً النظر الى فينشر بوصفه «مخرجاً مؤلفاً» او اقرب لأن يكون مؤلفاً على غرار سادة الموجة الجديدة الفرنسية الذين أعلن دائماً اعجابه بهم. بل حتى في وسعنا ان نقول انه يبعد، في فلسفته السينمائية في شكل عام، عن زملائه من المجايلين الأميركيين له الذين نتناول بعضهم في هذه السلسلة، فالواحد من هؤلاء يسعى، عادة، قليلاً أو كثيراً، كي تكون ثمة وحدة ما في أفلامه، سواء أكان هذا على صعيد الشكل أو على صعيد وحدة المضمون. أما فينشر، فإن لديه من التنوع في سينماه ما يجعل المتفرج يعتقد في كل مرة انه أمام مخرج مختلف. ومع هذا لن يكون من الصعب بالنسبة الى المراقب المدقق ان يعثر على ما يشكل قاسماً مشتركاً في أفلامه. بدءاً بمادونا وأصحابها دايفيد فينشر الذي ولد عام 1962 في دنفر في ولاية كولورادو الأميركية بدأ حياته الفنية مساعداً في عدد من الأفلام الضخمة. وهو انتقل بعد ذلك، مثل الكثير من مجايليه، الى العمل السينمائي التقني ولا سيما في مجال الأفلام الدعائية قبل ان ينتقل الى تحقيق عدد لا بأس به من «الفيديو كليب». والحقيقة ان المسار التمهيدي لفينشر كان من شأنه أن يكون طويلاً زمنياً لولا تلك الفرصة التي أُتيحت له ذات يوم كي يحقق، وكان لا يزال في العشرينات من عمره، فيلماً قصيراً جداً فيه دعاية ضد التدخين بوصفه يسبّب الإصابة بالسرطان للأجنّة وهم في بطن امهات مدخنات. لقول هذا، واتت يومها المبتدئ الشاب فكرة طريفة قوامها تصوير جنين يدخّن. وإذ رأى مسؤول شركة «بروباغندا فيلم»، ذلك الفيلم القصير والتقط قوة الفكرة، أدرك، كما سيقول لاحقاً، انه في حضرة رجل سينما حقيقي، فعهد الى فينشر بإخراج أول فيديو كليب له عن أغنية لريك سبرينغفيلد. وكان ذلك في عام 1985، الذي شهد ايضاً اكتشاف الشركة نفسها لعدد من مخرجين شبان موهوبين عهدت اليهم بتحقيق النوع نفسه من الشرائط وكانوا يحملون بدورهم تلك الأسماء التي ستشتهر في العقود التالية: سبيك جونز، غور فربنسكي، ميشال غوندري، ميكائيل باي... خلال السنوات التالية، حقق فينشر عدداً لا بأس به من شرائط مصورة لفنانين لا يقلون وزناً وأهمية عن مادونا وبيلي آيدول وباولا عبدول وفريق آيروسميث وحتى فريق الرولنغ ستون وروي أوربيسون... وكان نجاح معظم تلك الشرائط كافياً للفت أنظار هوليوود السينمائية اليه. وكان من حسن حظه ان شركة فوكس كانت تبحث في ذلك الحين عن مخرج شاب وديناميكي يحقق الجزء الثالث من سلسلة «آليين» فوقع الاختيار عليه وحقق الفيلم. صحيح ان فوكس ستندم بسرعة على ذلك الاختيار مع ان النقاد رحبوا بالفيلم وسُمّي فينشر نفسه لغير جائزة، كما نال الفيلم اوسكار افضل مؤثرات بصرية، لكن الفيلم فشل تجارياً وحكم النقاد عليه بالضعف الفني. ولسوف يثير هذا الحكم ثائرة فينشر ويسبّب خلافاً مع الشركة قال المخرج على أثره انه لم يكره شيئاً في حياته كراهيته لهذا الفيلم. ولكن قبل ان يقضي «آليين» على مستقبل فينشر السينمائي، كان هذا قد تعاقد لتحقيق فيلمه الثاني. وهذه المرة كانت الخبطة قوية. لكنها احتاجت الى انتظار خمس سنوات قبل ان تتجسد فعلاً. ذلك أن فينشر كان في تلك الأثناء قد عاد الى الفيديو كليب محققاً، بين أعمال أخرى، شريطاً لفريق الرولنغ ستون أدهش المتفرجين، ما أعاد اليه ثقته بنفسه. وهكذا ما إن حلّ عام 1995 حتى كان ينجز روائيّه الطويل الثاني «سيفن» (سبعة) من بطولة غونيث بالترو وبراد بيت ومورغان فريمان. ونعرف جميعاً بالطبع النجاح الضخم الذي حققه هذا الفيلم الذي يروي حكاية سفاح بالجملة يرتكب جرائمه تبعاً لمفهوم الخطايا السبع ويطارده شرطيان يكاد لفرط دهائه وقوته يذهلهما. والحقيقة ان جزءاً من النجاح «المقابري» للفيلم يعود الى مشهده الأخير القاسي والعنيف والخالي من أي قدر من الإنسانية والذي رغب المنتجون اول الأمر في حذفه من السيناريو والحيلولة دون تصويره، لكن براد بيت الذي كان اصبح نجماً ذا اسم كبير حينها، بدا مؤمناً بفينشر وسينماه فجابه المنتجين مصراً على إبقاء المشهد في الفيلم... فكانت النتيجة ان حقق الفيلم نجاحاً مذهلاً وحصد من المداخيل على الصعيد العالمي ما يزيد ثمانية أضعاف عن موازنته، ناهيك بحصده الكثير من الجوائز وقفزه باسم مخرجه الى الصف الأول بين شبان السينما الأميركية. قتال مجاني غير ان النجاح الكبير الذي حصده فينشر مع «سيفن» لم يتكرر في اي من افلامه التالية مباشرة له. فهو حقق بعده بعامين فيلم «اللعبة» من بطولة مايكل دوغلاس وشون بين... صحيح ان هذا الفيلم أتى مُحكماً وقوي الموضوع الذي يدور من حول لعبة اجتماعية تكاد تكون قاتلة، بين رجل وأخيه وتدور من حول حياة الأخ نفسه في شكل خلاق، لكن الجمهور لم يحب الفيلم كثيراً ولا حتى النقاد احبوه ولو انهم أثنوا على أداء دوغلاس فيه... وكاد الفشل الذي اصاب هذا الفيلم ان يدفع بفينشر الى اليأس مرة أخرى لولا أن جاء براد بيت لينقذه من جديد. وكان الإنقاذ هذه المرة عبر فيلم «نادي القتال» وهو بدوره فيلم عنيف يدور من حول جندي افتتح نادياً يتقاتل اعضاؤه في ما بينهم طوال الوقت حتى يسببوا لبعضهم بعضاً – وفي شكل مجاني – أعتى ضروب الأذى. وكما حال «اللعبة»، لم يحب المتفرجون هذا الفيلم في بداية الأمر واعتبروا عنفه قاسياً لا غاية له ومجانياً... وكذلك لم يستسغ النقاد الفيلم. ومع هذا ما إن مرت سنوات قليلة حتى انتخب قراء مجلة «توتال فيلم» السينمائية البريطانية «نادي القتال» كرابع افضل فيلم في تاريخ السينما بعد «فتية طيبون» لسكورسيزي، و «فرتيغو» لهتشكوك، و «الفك المفترس» لسبيلبرغ. صحيح ان احداً لم يعتدّ يومها بذلك الاختيار، لكنه اتى على اية حال نوعاً من التعويض المعنوي لمخرج لا شك في انه كان يبذل جهداً كبيراً في تحقيق افلامه ولكن من سوء حظه، ربما، انه كان يسيء اختيار اللحظة التي يطرح فيها موضوعاته... ومع هذا كله ولأن براد بيت، كان موجوداً دائماً ليسانده، وهو كان منتج «نادي القتال» وبطله الى جانب ادوارد نورتون وهيلينا بوهام كارتر، كان في وسع فينشر ألا يشعر بالإحباط الكلي وأن يمعن في انتظار فرصه المقبلة من دون ان يكون قد وصل الى رتبة «السينمائي الملعون». ولئن كانت تلك الفرصة حلت جزئياً مع فيلمه التالي «غرفة الرعب» (2002)، حيث احب الجمهور العريض الفيلم الذي قامت فيه جودي فوستر بدور ام تختبئ مع ابنتها في غرفة سرية في بيتهما، إذ يهاجمه لصوص قساة، وحقق الفيلم مردودات تزيد عن مئة مليون دولار في عروضه الأولى، فإنها – اي الفرصة – اتت كبيرة بعد ذلك بخمس سنوات، اي في عام 2007، حين حقق فينشر واحداً من انجح وأفضل افلامه منذ «سيفن»، ونعني به «زودياك»، الذي اعاد وصل صاحبه بمفهوم النجاح، حتى وإن كانت مردوداته المالية قد جاءت متواضعة (ما لا يزيد عن ستين مليون دولار في العروض الأولى). فالفيلم رُشّح للسعفة الذهبية في مهرجان «كان»، كما رُشّح لجوائز أخرى عدة. صحيح انه لم ينل اية واحدة منها، لكن النقاد استقبلوه بقوة ووضعوه في منزلة واحدة مع الفيلمين الكبيرين الأميركيين اللذين ظهرا في العام نفسه، «ستكون هناك دماء» لبول توماس اندرسون، و «ليس هذا وطناً للعجائز» للأخوين كون... وبفضل هذا الفيلم، استعاد فينشر بالتأكيد مكانته الأساسية في حاضر السينما الهوليوودية، وصار عليه من ذلك الحين وصاعداً، ان يسجل النجاحات تلو الأخرى. وصول الى العصر وكانت في الحقيقة نجاحات مدهشة وطيبة حتى وإن كانت قليلة العدد حتى الآن. فمنذ عام «زودياك» – 2007 – لم يحقق دايفيد فينشر سوى اربعة افلام (آخرها تلفزيوني). لكن الثلاثة الأولى من بينها كرّست مكانته بالتأكيد، وليس على الصعيد الفني فقط، ولا على صعيد الجوائز الكثيرة، التي رشح للكثير منها وفاز بعدد لا يستهان به، بل كذلك على صعيد النجاح التجاري. وكان اول هذه الأفلام «حالة بنجامين بوتون الغريبة» (2008) المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب سكوت فيتزجيرالد، والذي يحكي حكاية في منتهى الغرابة عن بنجامين الذي ما إن يصل الى عمر معيّن حتى يصغر بدلاً من أن يكبر في السن الى ان يعود طفلاً رضيعاً. في هذا الفيلم لعب براد بيت الدور بإجادة مدهشة في ثالث تعاون له مع فينشر، وحقق الفيلم نجاحات لدى النقاد ومداخيل مالية مشرفة على رغم ارتفاع موازنته التي لم تقل عن 150 مليون دولار أنفق الكثير منها على المؤثرات والخدع، ما انتهى الى حصول الفيلم على اوسكارات قيّمة في هذه المجالات بالذات، بين العشرات من الجوائز والترشيحات الأخرى. وبعد عامين من هذا النجاح الكبير الذي حققه فينشر في تلك الحكاية الغريبة، اتى دور النجاح التجاري والجوائزي والنقدي الأكبر في مساره حتى الآن، في «الشبكة الاجتماعية» (سوشال نتوورك) الذي عرض في العام 2010 وضمت لائحة جوائزه ما يزيد عن خمسين جائزة من بينها السيزار الفرنسية والغولدن غلوب والبافتا وما الى ذلك. ونعرف طبعاً ان هذا الفيلم اتى ليلامس واحدة من أكبر حكايات النجاح الإعلامي والاقتصادي في مفتتح الألفية الثالثة، حكاية الشاب الأميركي مارك زوكربرغ الذي ابتكر ذات لحظة سأم في حياته محرك «الفيسبوك» ليتحول هذا بين ليلة وضحاها الى انجح مشروع اجتماعي ومؤسسة اقتصادية في العالم. والحقيقة ان فينشر الذي، كعادته، حقق فيلمه هذا انطلاقاً من كتاب «بليونيريو الصدفة» لآرون سوركين، عرف في هذا الفيلم كيف يضرب ضربته الكبرى، سواء أكان ذلك في مجال اختياره موضوعاً شديد الراهنية، او من خلال لغة سينمائية دينامية سريعة الحركة مبهرة في حواراتها تتماشى كل التماشي مع لغة العصر ومزاج شبيبته، فكان ان أقبل الشباب بوفرة لمشاهدة حكاية نجاح واحد منهم، يرويها مخرج له هو الآخر ديناميكية الشباب. والحال ان فينشر لم يعد في حاجة لأن ينتظر طويلاً أو لأن ينقذه احد من اي احباط، بعد «الشبكة الاجتماعية». ومن هنا كان من المنطقي ان يكون هو من وقع الاختيار عليه لتحقيق الطبعة الهوليوودية من الفيلم المقتبس عن رواية الراحل ستيغ لارسن الشهيرة «الفتاة ذات الوشم»، على ان يتولى لاحقاً اخراج الجزء الثاني من الرواية الثلاثية نفسها. ومن جديد، أخذ فينشر كل حريته الفنية والتعبيرية في تحقيق هذا الفيلم الذي سرعان ما عرض ليحقق مرة أخرى نجاحات تجارية ونقدية مدهشة... كرست من جديد اسم هذا المخرج الذي انصرف بعد ذلك الى انتاج تلفزيوني في انتظار العمل المقبل، او بالأحرى العملين المقبلين، طالما انه اعلن عن عزمه تحقيق الفيلمين المتبقيين من ثلاثية لارسن. الحلقة المقبلة: بول توماس اندرسون