كانت لافتة رفعها كهنة الانحدار الأميركي طويلاً. إغلاق الحكومة الفيديرالية وتوقع حصول عجز في ديْن البلاد والعجز السياسي الذي جعل الولاياتالمتحدة تبدو فاقدة الاتجاه حول سورية، واضطرار الرئيس اوباما إلى إلغاء رحلته إلى آسيا، كلها أكدت أن نهاية التفوق الأميركي قد حلت أخيراً. رئيس «مجلس العلاقات الخارجية» ريتشارد هاس جادل في أن واشنطن «تُسرِّع ظهور عالم ما بعد أميركا». وكتب تيموثي غارتون آش في «ذي غارديان» أن «تفكك القوة الأميركية يجري بأسرع مما توقع معظمنا- في حين أن السياسيين في واشنطن يتصرفون ككباش متناطحة اشتبكت قرونها ببعضها بعضاً». وأعلن الموقع المالي «ماركت واتش»: «هكذا يبدو انحدار القوة العظمى». هيمنت الفكرة القائلة إن لحظة كهذه آتية على دوائر السياسة الخارجية منذ العقد الأول من هذا القرن. وحذر المنذرون بالانحدار، من أنه في ضوء الصعوبات الأميركية الداخلية والخارجية، والصعود السريع للقوى الجديدة مثل البرازيل والهند والصين، ينبغي أن نستعد لنظام عالمي لم تعد الولاياتالمتحدة تهيمن عليه. ويجادل بعضهم في أن على أميركا أن تنكفئ وتخفض جهدها، فيما يقول آخرون إن عليها أن تتشارك في حمل أعباء القيادة مع العمالقة الجدد. بيد أن التكهن بانحدار الولاياتالمتحدة كان دائماً عملاً محفوفاً بالأخطار. التوقعات التي انتشرت في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين تبعتها فترات من النهوض الجيو- سياسي. هناك ما يكفي من الأسباب للاعتقاد بأن الدورة تتكرر اليوم. وعلى رغم العثرات في واشنطن، تستعيد أميركا عافيتها من الأزمة المالية، وتجمع عناصر قوة دائمة مع مصادر جديدة من النفوذ، بما فيها الطاقة. في غضون ذلك، تصطدم القوى الناشئة بمشكلاتها الخاصة. نتيجة جمع هذه التطورات تقود إلى حقبة جديدة من الامتياز الأميركي الاستراتيجي. كانت الاقتصادات الناشئة موضع تقدير كبير في العقد الماضي، ونمت بمعدل سبعة في المئة سنوياً بين 2003 و2012. مع بعض الحسابات، كان من المفترض أن تتجاوز الصين الولاياتالمتحدة في إجمالي الناتج المحلي بحلول 2016. تبدو الصورة اليوم مختلفة. انهار معدل نمو البرازيل من اكثر من سبعة في المئة في 2010 إلى اقل من واحد في المئة. وعلى نحو مشابه، سقط نمو الهند إلى حوالى الثلاثة في المئة في 2012 من مستوى كان يزيد على عشرة في المئة قبل عامين. ولعل الأبرز كان مراجعة حكومة الصين أهداف النمو الرسمية، ولم يعد المحللون يسألون هل سيحصل التباطؤ الاقتصادي الصيني، بل يسألون عن درجة قسوة هبوطه. الأنظمة السياسية في القوى الناشئة تعاني بدورها. انطلقت احتجاجات ضخمة في البرازيل على الإهدار في الإنفاق الحكومي، وعلى التفاوت في عدالة البرامج الاجتماعية. وتبدو روسيا خاضعة لحكم اكثر تسلطية اليوم. ويصعّد الحزب الشيوعي الصيني جهوده لقمع الصحافيين والأكاديميين والمدوّنين في ما يبدو كمحاولة للسيطرة على الاستياء المترافق مع تباطؤ النمو والإصلاحات الاقتصادية المؤلمة. «القوى الصاعدة» هذه لا تبدو في وضع أفضل على الصعيد الجماعي. فالمؤسسات الدولية التي أنشأتها - «بريكس» و»منظمة تعاون شنغهاي» و»ايبسا»- مستمرة في تخييب الآمال. في الوقت ذاته تشهد الولاياتالمتحدة تجربة تحويل في مصادر الثروات. وانخفض معدل البطالة إلى اعلى قليلاً من سبعة في المئة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2009، بعدما وصل إلى ذروة العشرة في المئة. في المقابل، ما زالت البطالة في منطقة اليورو ثابتة حول 12 في المئة. يتجاوز أهمية الثورة في مجال الطاقة التي تشهدها واحتفاظها بموقعها كقوة عسكرية لا تضاهى، وبمركزها ضمن المجتمع الدولي، تمتّع الولاياتالمتحدة بمزيج متفوق من الأسس السليمة في مجالات السكان (الديموغرافيا) والجغرافيا والتعليم العالي والتجديد. ويضمن المزيج هذا لشعبها وأفكارها وأمنها أن يزدهروا في الداخل والخارج. وثمة سبب لاستمرار رغبة النخب في أنحاء العالم في ارسال ثرواتها وعائلاتها إلى الولاياتالمتحدة. في مستهل هذه المرحلة من التفوق الاستراتيجي، ستواجه الولاياتالمتحدة تحديات سياسية خارجية ترتبط غالباً بهشاشة الاستقرار في الخارج. وستصارع واشنطن تبعات ضعف الصين وعواقب ذلك على اقتصادات شرق آسيا وسياساته. وسيتابع الشرق الأوسط ثورته المؤلمة والدموية. وتبدو أوروبا عاجزة عن تجاوز ركودها المزمن الذي يعيق قدرتها على أداء دور بنّاء في الشؤون العالمية. * تباعاً، نائب مدير برنامج آسيا والمحيط الهادئ في «المركز من أجل أمن أميركي جديد»، وباحث في مشروع «ادارة نظام عالمي» في معهد بروكنغز، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 18/10/2013، إعداد حسام عيتاني