أخرجت الثورة المجتمع السوري من الغمر. كانت سورية بلداً مُعمّى، يبدو خالياً من البشر ووجوههم وحكاياتهم. اليوم هو بلد يعرف بثورته ووحشية نظامه، وبهذا الموكب الصاخب من مدن وبلدات وقرى، من أسماء وصور لرجال ونساء وأولاد وشيوخ، من أديان وطوائف وإثنيات وعشائر، من لغات ولهجات وأصوات وأزياء، من «ناشطين» و «مقاتلين»، و «سياسيين»، ومن تضامن وكراهية ولا مبالاة بليدة، ومن أمل وغضب وتهكم مر. وفي سورية الحيوية والفوارة هذه، وحده النظام يبدو مبتذلاً قديماً، ووحدهم رجاله يبدون تجسيداً لكل ما هو سقيم وعفن وميت. لهذا الخروج الكبير وجهان لا ينفصلان عن بعضهما بعضاً. وجه مشرق، ترسم ملامحه قوة الحياة وتطلعات الحرية والغنى الإبداعي الكبير الذي أظهره المجتمع السوري خلال 13 شهراً، ووجه مكفهر يحيل إلى قوة التدمير وتحطيم الأطر السياسية والمؤسسية والفكرية المعهودة، وما يواكبها من اضطراب سياسي وتمزق نفسي وتنازع اجتماعي. بهذين الوجهين معاً، يغاير التفجر السوري التفجرات التي عرفتها البلدان الأخرى العربية، من حيث اتساع قاعدته البشرية، وشدة قوته التدميرية، وطول أمده. ويفوقها قوة لخواء المؤسسات السياسية والفكرية القائمة في سورية من أية فاعلية عامة ضابطة. وما تواجهه المعارضة السورية من صعوبات يتصل بهذا الاندفاع العاصف غير المنظم الذي يتعذر أن تستوعبه قوالب التفكير والعمل الموروثة. يرجح لهذا الدفق الحيوي الفوضوي أن يتسبب في تقويض هائل لكل ما هو مستقر، وألا يترك شيئاً على حاله في البلد. هذا ليس امتيازاً مضموناً للبلد وأهله. لعله يزج قطاعات أكبر من السوريين في عملية التفجر الاجتماعي والسياسي والفكري الجارية، فيُرقّي بذلك من أهليتهم السياسية. لكنّ له جانباً تدميرياً عنيفاً هو منذ الآن شديد القسوة وباهظ الكلفة، وقد يكون الآتي أعظم. في تونس ومصر، كانت ثمة مؤسسات أمكن استصلاحها والاستناد إليها. هذا حدَّ من جذرية الثورتين، لكنه حدَّ من كلفتهما الإنسانية والمادية أيضاً. في سورية لا يبدو أن هناك ما يمكن الاستناد إليه، لا شيء على الإطلاق (إلا الله). ويحتمل، لذلك، أن تكون القطيعة السورية أشد عمقاً وإيلاماً، بدرجة تتناسب على كل حال مع تطرف النظام وعدوانيته. ولعل الأصل في كل هذا الاضطراب التوتر المديد بين غنى وفتوة وتنوع المجتمع السوري وبين الضيق الخانق للقوالب السياسية والفكرية التي حشر ضمنها خلال نصف قرن. وهذا في بلد شديد القلق أصلاً، كان موّاراً بتيارات متضاربة قبل الحكم البعثي، ولم يتوافق في أي وقت على أسس فكرية وسياسية مناسبة لاستقراره وتطوره، ولا حتى على مفهوم للهوية الوطنية الجامعة. وإنما من هذه الثغرات الواسعة دخل الانقلاب العسكري البعثي، ثم الحكم الأسدي الذي حول الغنى السوري المتنافر إلى نمط واحد فقير و «استقرار» مميت. وإذا كان صحيحاً أن الزمن البعثي (أكثر من نصف عمر الكيان السوري الحديث)، وصفحتيه الأسديتين بخاصة، تتحمل المسؤولية عن المحنة السورية الراهنة، فإن حكم «البعث» والأسدين جاء على خلفية مشكلات موروثة، كيانية واجتماعية وسياسية، وإن يكن في المحصلة فاقمها جميعاً ولم يحسم أياً منها. هذه المشكلات تفرض نفسها بزخم متزايد منذ الآن، وستكون مثار خصومات وصراعات كثيرة في أي مستقبل قريب، منها بخاصة ما يتصل بالمسألة الطائفية وتنظيم العلاقات بين السوريين المختلفي الأديان والمذاهب. السجل البعثي الأسدي مشين في هذا الشأن، وميراثه كارثي. ومنها ما يتصل بالشأن الكردي والمجموعات الأخرى العرقية، والسجل سلبي جداً في هذا الشأن أيضاً. ومنها ما يتصل بالنظام السياسي ومؤسسات الحكم، والصعوبات الكبيرة التي يتحتم أن تواجه سورية بعد التخلص من النظام الحالي. ومنها ما يتصل بعلاقات سورية وروابطها العربية والإقليمية والدولية، وما يطرحه ذلك من صعوبات في وجه ضمان استقلال البلد واستقراره في المستقبل. وفي أساسها كلها ما يتصل بمفهوم سورية وهويتها الوطنية، وصيغ استيعاب كل من العروبة والإسلام في الوطنية السورية. والقصد أن الثورة مناسبة لتفجر مشكلات تاريخ سورية غير المعالجة وغير المحلولة كلها. قبل الحكم البعثي، كان لدينا سورية، ولكن لم يكن هناك سوريون. اليوم، وبعد نحو نصف قرن بعثي، هناك سوريون أكثر، لكن هناك خشية جدية على سورية، كياناً ودولة. وسيتمثل التحدي العسير في إعادة بناء سورية كوطن والسوريين كشعب، وتجاوز مشكلات الاضطراب السياسي والفكري السابقة للحكم البعثي، والإفقار السياسي والثقافي الذي نرثه من الحكم الأسدي. وليس في وقوف السوريين أمام تاريخ كيانهم الوطني كله ما هو استثنائي. فعدا عن حداثة كيان سورية، فإن الثورة هي أضخم حدث تاريخي في تاريخ هذا البلد منذ استقلاله، بل هو الأكبر والأوسع نطاقاً خلال 94 سنة من تاريخه. ثم إنه طوال سنوات الحكم الأسدي كانت النخب السورية، المثقفة والسياسية، تفر من مواجهة مشكلات البلد والمجتمع، أو حتى من الإقرار بها. فكان أن أُضيف إلى الكبت السياسي كبت فكري، جعل سورية بلداً مجهولاً لأهله قبل غيرهم. وكان أيضاً أن أخذت تتفجر بفظاظة المشكلات التي ثابر الفكر المرهف على تجنبها. وإذ تتحدى الثورة اليوم وبقسوة عادات النخبة السورية في المواربة والتجنب، تبدو مقبلة على الإطاحة بإشكاليات ومذاهب وأعلام، والتأسيس لتفكير وإشكاليات جديدة. وإلى حين تتبلور توازنات اجتماعية وسياسية وفكرية جديدة ويقوم عليها استقرار جديد، سنمر حتماً بأوقات مضطربة تتنازع فيها الآراء وتحتدم الانفعالات وتتقلب النفوس. إننا ندفع ثمن تأخر في مواجهة الذات، عمره أكثر من جيل. من شأن قسوة القادم السوري أن تكون مخيبة لحماسات وتوقعات محلّقة من الثورة، ولكن هذه هي القاعدة وليست الاستثناء في تاريخ الثورات. فهي قلما تثمر أوضاعاً أكثر عدالة وحرية خلال وقت قريب، لكنها تحرر ديناميات اجتماعية وتاريخية كانت مكبوحة، وتنتج جيلاً نشطاً مجدداً، وتفتح أفق المجتمع المعني على ممكنات كثيرة. ... نتكلم كأن سقوط النظام أمر محقق؟ هو كذلك.