العناوين الموسيقية قد لا تكون موفية بالغرض. ثم إنها قد لا تكون مستحبة. الموسيقيون المتزمتون لا تعجبهم الموسيقى التي «تتحدث» عن شيء، لأن هذا ينتقص من تجريديتها. المتزمتون لا تعجبهم الأصوات التي تقلد الطبيعة في السمفونية السادسة لبيتهوفن. إنها هبوط من تجريدية بيتهوفن إلى لغة الواقع. وكان شومان حذراً جداً في تعامله مع عمل موسيقي رائع لبرليوز، هو «سمفوني فانتاستيك» لأنه كان عملاً برنامجياً. هذا الموضوع أصبح معقداً عندما صار بعض الموسيقيين اللامعين يضع عناوين لمؤلفاته الموسيقية، مثل فرانز لست، وديبوسي، ورافيل، وصوفيا غوبايدولينا، وآخرين. على سبيل المثل، سمفونية دانتي، وسمفونية فاوست لفرانز لست، ورحلة الروح، ونور النهاية، وساعة الروح لصوفيا غوبايدولينا، إلخ، الخ. لا أدري ما هي قيمة هذه العناوين. فأنا لا أشعر بشيء يمكن أن يذكرني بدانتي، وبفاوست، عندما أستمع إلى سمفونيتَي لست. وهذا يسري على مؤلفات غوبايدولينا، ربما باستثناء مقطع غنائي. هناك انطباع قد يتكون لدى المستمع قد يكون له بعد برنامجي، هذا كل ما في الأمر. وربما يكون هذا الانطباع صارخاً في بعض الحالات، مثل مقطوعة (فرانتشسكا دا ريميني) لتشايكوفسكي. حفزني على كتابة هذا الموضوع مقطع موسيقي لديبوسي في عنوان (المشي على الثلج)، هو أحد مقاطع مقدمات ديبوسي preludes (الكتاب الأول)، وهي 12 مقطعاً، كلها لها عناوين. هذا المقطع كان ولا يزال من أحب المقاطع الموسيقية إليّ، حتى قبل أن أعرف عنوانه. لكنني سأعود إليه بعد أن أرجع إلى ما كتب عن الموسيقى البرنامجية في معجم أوكسفورد الموسيقي. جاء في هذا المعجم الموجز: الموسيقى البرنامجية هي موسيقى على الآلات تروي قصة، أو تصور أفكاراً أدبية، أو تستنهض في الذهن مشاهد تصويرية. ومع أن المصطلح كان من ابتكار فرانز لست، إلا أن الموسيقى التصويرية وجدت منذ نشوء الموسيقى ذاتها. إن (السمفونية الرعوية) لبيتهوفن هي نموذج كامل المواصفات تقريباً للموسيقى التي تجمع بين الجانب التصويري والجانب التجريدي المقنع كموسيقى. في القرن التاسع عشر، وظف موسيقيون مثل برليوز، ولست، وتشايكوفسكي، وريكارد شتراوس كامل المصادر الأوركسترالية لهذا النهج الموسيقي في مؤلفات مثل السمفونية الفانتاستيكية، وروميو وجولييت، ودون كيشوت. إن الزعم الذي شاع يوماً ما على نطاق واسع، والذي يذهب إلى أن «الموسيقى المطلقة» هي أرقى من «الموسيقى البرنامجية» أصبح الآن يعتبر لاغياً عن ثقة تامة. هل أعيد النظر في ما كتبته في مستهل هذه الكلمة؟ لا! لكنني أبقى على حيرة من أمري في شأن الموسيقى البرنامجية. صحيح أني لا ألمس هبوطاً في المستوى الفني في الموسيقى البرنامجية، لكنني لا ألمس أيضاً برنامجية واضحة في الموسيقى البرنامجية، كما لو أقرأ في كتاب. هناك عمل شبه سمفوني لبرليوز في عنوان (روميو وجولييت) وعمل آخر لتشايكوفسكي يحمل هذا العنوان. وكلاهما رائع بالمناسبة. لكن، كيف نفهم هذا وذاك؟ وهل سيتغير انطباعنا لو رفعنا العنوان عنهما؟ لا أدري! الموسيقى فن غامض جداً، لأن أبجديتها ليست لها دلالة (كاللغة)، لكنها موحية. والإيحاء سر روعتها. لكن ماذا عن الموسيقى المجردة؟ هل فيها عنصر أو عناصر إيحاء؟ أحياناً تبدو لي الموسيقى المجردة شيئاً فلسفياً، شيئاً ينأى بي عن كل شيء. وسأقول لكم شيئاً (وأنا ذكرت في مقابلة معي على فضائية العربية أنك في حاجة إلى عمر بأكمله كي تتذوق الموسيقى) أريد أن أقول إنني عندما كنت أستمع إلى مقطع (المشي على الثلج) من مقدمات ديبوسي، كنت أشعر بتسامٍ روحي، وانتماء إلى عالم الفلسفة. ثم لما علمت أن عنوان هذا المقطع هو المشي على الثلج، شعرت بسعادة لأنني أمسكت بخيوط هذه المقطوعة. لكن الحيرة تملكتني: هل كانت التأملات الفلسفية التي بنجتني في هذه المقطوعة مشياً على الثلج؟ أنا أعتقد لو كان عنوان المقطوعة تأملات لجاء أقرب إلى تصوراتي. لكنني، مع ذلك، صرت أتعامل معاها كمشي على الثلج. فما هي العناوين الموسيقية؟ سأتحدث عن انطباع آخر. أنا تحدثت في مناسبة أخرى عن مقطوعة إيستامب Estampes لديبوسي. وقلت إن هذه المقطوعة هي أحب مقطوعة موسيقية إليّ (هي على البيانو). وتكلمت عنها بهيام. ولعلي قلت إنها من بين أحب اليوتوبيات إليّ. وسأعود إلى قصتي معها. لكنني أود أن أشير هنا إلى أن العنوان يعني (طوابع) قد تكون بريدية. مرة أخرى، هل جاء هذا العنوان معبراً عن الغرض؟ هذا عنوان غامض. ما هو البعد الموسيقي للطوابع، أو في الطوابع؟ لم أحصل على معلومات حول طبيعة العنوان، سوى أنه يشمل ثلاث مقطوعات تحت عناوين متفرعة، هي باغود، وأمسية في غرناطة، وجنائن تحت المطر. لكن أجملها هي باغود أو باغودا. العنوان عندي هو للتعريف ليس إلّا. وأنا لا أرى فيها برنامجية، أو تجريدية، بل لمسة من الحزن الكتيم الذي يبهج الروح، إذا جاز لي القول، أو نموذجاً من آلام السعادة الحقة التي ينشدها نيتشه في الموسيقى المستحيلة. وهذه تتعالى على التسميات والعناوين، على رغم أن هذه لا بد منها لأجل التعريف. أنا افترض أن موسيقى البيانو أكثر تجريدية من بقية الموسيقى. لهذا السبب، أنا أفضلها على غيرها من الموسيقى. وأنا كنت أتوقع أن يكون ديبوسي أكثر تجريدية مما هو عليه في الواقع. لكن ديبوسي موسيقي برنامجي حتى النخاع، لا سيما في موسيقاه الأوركسترالية، وعلى وجه الخصوص في مقطوعته (قيلولة الفون). وهو القائل «إن الموسيقى هي التعبير عن حركة المياه، ولعب المنحنيات التي تحدثها النسائم المتغيرة». وكان يريد أن يعبّر عما لا يمكن التعبير عنه، وبالنسبة له إن الحياة المتخيلة هي الحياة الحقيقة الوحيدة. هذا الموضوع يبقى موضع نقاش. فهناك موسيقيون يصرون على أن يكونوا تجريديين، وفي المقدمة سترافنسكي. وفي هذا الإطار أيضا تندرج الموسيقى الاثنا عشرية، التي رفضت الموسيقى المقامية. ويتعين علينا أن لا ننسى أيضاً أن ديبوسي تململ على الموسيقى المقامية. فهو ليس مقامياً بكل معنى الكلمة... وأنا كنت أريد أن أتحدث عن الموسيقى المقامية والموسيقى اللامقامية، لأن الدائرة ستكون أوسع. ولا بد من الإشارة إلى أن الموسيقى البرنامجية هي موسيقى مقامية في غالبية الحالات. كما أود أن أشير إلى أن الموسيقى ذات العناوين ليس بالضرورة أن تكون موسيقى برنامجية. أو لا أدري، لعل هناك درجات من البرنامجية. إن الموسيقى المرافقة هي موسيقى برنامجية. وهذه وجدت منذ أيام الإغريق لمرافقة الحدث المسرحي. وهناك الكثير من الأمثلة على الموسيقى المرافقة الممتازة منذ القرن التاسع عشر، من بين أشهرها مقطوعة (إيغمونت) لبيتهوفن عن عمل لغوته، و (حلم ليلة في منتصف صيف) لمندلسون عن شكسبير، و (آرليسين) لجورج بيزيه عن ألفونس دوديه، إلخ. وبالطبع إن كل موسيقى الأفلام هي موسيقة مرافقة. إن مقطوعة (إيغمونت) لبيتهوفن هي من أروع النماذج الموسيقية على الإطلاق. و «القصائد» السمفونية لفرانز لست معروفة. وأظن أن المصطلح من ابتكاره. ولسبليوز مؤلفات موسيقية ذات مواضيع آسرة في شعريتها. ولا أريد أن أنسى مقطوعة (صبي الساحر) لبول دوكا التي أخرجها والت ديزني في فيلمه الكارتوني (فانتازيا). وبهذه المناسبة، إن والت ديزني وضع قصة في فيلمه هذا لواحدة من أكثر المؤلفات الموسيقية تجريدية، أعني بها (شعائر الربيع) لسترافنسكي. فبماذا نخلص من هذا؟ هنا، تنهض في الذهن أيضاً محاولات توظيف أي عمل موسيقي (تجريدي) في فن البالية، كما تم مع إحدى سمفونيات برامز. آه، أنا كنت أريد أن لا أنسى موسيقى مانويل دي فايا، مثل (القبعة ذات الزوايا الثلاث)، و (الحب الساحر) التي تشتمل على مقطوعة (رقصة النار) المذهلة في نصها الأوركسترالي وفي نصها المؤدى على البيانو. لكنني أبقى أحن دائماً إلى سماع (أمسيات في جنائن إسبانيا) المذهلة إلى حد انقطاع النفس في حوارها بين البيانو والأوركسترا. وكنت أريد أن أعود إلى الحديث عن مقطوعتي الأثيرة جداً، (إيستامب)، فقد كنت أستمع إليها أمس واليوم بخشوع وأنا أكتب هذه الكلمة. لكنني سأنهي كلمتي بالكلام عن موسيقى رافيل وطابعها البرنامجي. حسبه أنه ألف باليه (ذا فنيز وخلويه) المذهلة في بنائها الأوركسترالي. وقد أدتها فرقة باليه روس لمؤسسها دباغيليف. لكنني سأشير إلى مؤلفاته المذهلة على البيانو، لا سيما مقطوعته الآسرة (اللعب بالماء) التي بزّ فيها مقطوعة فرانز لست التي تحمل اسماً مشابهاً. وسأكتفي بذكر (غاسبار دي لانوي) التي تعتبر أروع مقطوعة على البيانو في القرن العشرين، وهي عن قصيدة للشاعر الفرنسي الوسيوس برتراند. ولعلي أفرد لها يوماً ما كلمة خاصة بها. بعد هذا، فاتني أن أتحدث عن متتالية ريمسكي - كورساكوف السمفونية شهرزاد، فهي تنطق ببرنامجيتها بكل وضوح. ولا أريد أن أنسى أيضاً افتتاحية 1812 لتشايكوفسكي حول تراجع نابليون عن موسكو، التي اقتبس محمد عبدالوهاب مقطعها الأخير في إحدى مقطوعاته المتأخرة (نسيت اسمها). لكنني أريد أن أقول إن الموسيقى تبقى أسمى من المسميات. إنها تحيل المشي على الثلج إلى سحر، وتسمو بانطباعات اعتيادية إلى أشياء أثيرية، كما في مقطوعة (إيستامب).