بعد عملية قلب مفتوح مطلع تسعينات القرن العشرين، دبّت الحياة مجدداً في شرايين وديع الصافي وتجدّدت دماؤه. كأنه انتظر هذه العملية التي فتحت شهيته على العمل مجدداً والانفتاح على الآخر، هو الذي كان عمره آنذاك حوالى 70 سنة. الصافي الذي رحل مساء أول من أمس، بعد جلطة دماغية، يعتبر من أجرأ المطربين اللبنانيين وأكثرهم شجاعة في التجريب الموسيقي لأسباب سنذكرها لاحقاً. وما يُسجَّل له احتضانه مواهب شابة والعمل معها، على رغم أن بعضها أساء إليه في آخر مشواره الفني، خصوصاً تصويره بعض الكليبات التي لم تضف شيئاً إلى رصيده الفني، بل حققت انتشاراً ودعاية لمن كان معه. طرح المنتج الفني المثير للجدل ميشال ألفتريادس مطلع عام 2000 على رفيق الأخوين رحباني وزكي ناصيف وفيلمون وهبي ونصري شمس الدين، فكرة القيام بدويتو مع المغني الإسباني خوسيه فرنانديز، فوافق الصافي سريعاً على رغم عدم وجود قواسم مشتركة بين الاثنين فنياً، ولكن حب المغامرة لديه شجعه على ذلك. لنفكر برويّة لمَ وافق الصافي على هذا الطلب الذي قد يسيء إلى تاريخه في حال عدم نجاحه. فابن نيحا لا يحتاج شهرة أو انتشاراً، هو الذي جال مسارح العالم، وبات اسمه من أهم الأسماء التي امتهنت الطرب في العالم العربي، لما في صوته من طاقة وتجدد. كما أن المنطق يقول إن الرجل لا يحتاج إلى المال، بعد هذه المسيرة الفنية الطويلة، واللون الغنائي الذي يقدّمه لا يتوافق مع إيقاعات المغني الإسباني وأعماله. التجربة وحب المغامرة والتنويع، دفعت صاحب أغنية «ولو» إلى قبول التحدي، وهي خطوة لم يسبقه إليها أحد من أبناء جيله، ولا من فناني الجيل الجديد المتقوقعين في تكرار الألحان والكلمات. كما أن هذه الخطوة لاقت ترحيباً عربياً وعالمياً لما فيها من تقارب بين الموسيقى الشرقية والغربية. أراد الصافي في اختتام مسيرته التجريب الموسيقي في أعماله، والعمل على تحديث ألحانه، واستخراج طاقات قد تكون دفينة في موهبته. وهذا ما بدا واضحاً على الثمانيني الذي رقص وغنّى واحمرّت وجنتاه مجدداً مع الشاب الإسباني. ووفرت هذه الخطوة لخوسيه فرنانديز عبوراً لافتاً إلى المنطقة العربية، بصوته الجميل والرخيم، وتمكنه من تراث بلده وفولكلوره، وقدرته على الدمج الموسيقي، وترجمة مقاطع من أغنيات الصافي إلى الإسبانية وأدائها بإشرافه. والمتابع تسجيلات حفلات هذا الثنائي المتألق التي انتشرت بسرعة وحققت مشاهدة عالية على «يوتيوب»، يلاحظ أن صاحب «رح حلّفك بالغصن يا عصفور» قدّم أغنياته القديمة بروح شبابية، وكان مرتاحاً للتوزيع الموسيقي الجديد الذي دخلت عليه إيقاعات غجرية والفلامنكو. فتحت هذه التجربة آفاقاً جديدة لفرنانديز الذي غنّى بإحساس شرقي لافت، فقدم أعمالاً لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ. كما أطلق ألبوماً في بيروت عنوانه «مخلوطة»، تضمن إيقاعات إسبانية وشرقية وهندية وفلامنكو. واستفاد كثيرون من تجربة الثنائي، فعمل البعض على تقليد التجربة، فظهرت أعمال بين فنانين لبنانيين وإسبان، لكنها لم تكن مدروسة وافتقرت إلى الإبداع. وفي إحدى مقابلاته الصحافية تحدث الفنان الإسباني عن تجربته مع الصافي عازياً نجاحها إلى غياب القواسم المشتركة بينهما: «هذه الصدمة هي التي جعلت العمل ناجحاً».