بماذا يفكر من يفجّر جسده بأشخاص يعتبرهم أعداء؟ ما هو المشهد الأخير أمام عينيه، وما هي آخر فكرة طرأت على عقله وما طبيعة الإحساس في قلبه؟ أسئلة كثيرة والإجابات قليلة. يسأل المقتول لماذا «أنا» الضحية؟ ويُسأل القاتل لأي هدف يضحي بأغلى وأثمن ما يملك، أشلاء روحه وشظايا جسده.. هم متشدّدون ومتطرفون وإرهابيون وأصوليون، نعوت كثيرة صارت تطلق على كل إنسان يحمل راية سوداء، أو يرخي لحيته ويقصّر ثوبه ويصرخ مكبّراً في ساحات الوغى. المنطقة تمر بمرحلة خطرة، انتشرت فيها العمليات الانتحارية، واتسعت رقعة الفوضى وتعاظم نفوذ تنظيم «القاعدة». هي لعبة أصبح الموت فيها أسهل الطرق إلى الغاية بوسائل كلُّ يراها مناسبة. حين وصلت إلى ريف دمشق، أعلمت المجموعة التي كنت معها أني صحافي أريد أن أكتب بعض التقارير عن المعارضة السورية. عصراً اصطحبني شابان إلى أحد المنازل، كان هناك أشخاص كثر يدخلون ويخرجون. كان هذا المنزل أحد غرف العمليات كما بدا لي. لم يكترث أحد بوجودي، جلست نحو ساعة ونصف ساعة، كان رجل كثيف اللحية، جسده ممتلئ، يوزع المهمات على المقاتلين، رحب بي حين وصلت، وكان يرحب بي بين الوقت والآخر حين تتاح له الفرصة، ولا يسألني شيئاً... بعدها ذهبت إلى المكان الذي كان مقرراً أن أبيت فيه. عند الساعة الخامسة فجراً، أتى هذا الرجل، طلب مني اصطحابه. في الطريق، سألني لماذا سرت المسافات الشاسعة وأتيت إلى هنا، قلت له أنا صحافي، وأسعى إلى تعريف الناس بما يجري. كان حذراً، قال إن الصحافيين غالباً ما يكونون على علاقة بأجهزة استخباراتية، فما الذي يثبت لي أنك لست كذلك؟ قلت له إما أن تثق بي، وإما أن أعود من حيث أتيت، كما أني وللمرة الأولى آتي إلى هذه الديار ولا أعرف شيئاً عن جغرافيتها، كما أنكم تستطيعون أن تضعوا عصابة على عينيّ وتأخذوا احتياطاتكم، أنا لا أريد أن أعرف أسراركم العسكرية، أريد معرفة أسرار تفكيركم ورؤيتكم للصراع، أريد أن أفهم لماذا تقاتلون؟ وما هي نظرتكم المستقبلية لسورية؟ أخبرته أني دارس للشريعة الإسلامية وعلى اطلاع بعلومها، سألني بعض الأسئلة في علوم الشريعة، فأجبته. وصلنا إلى أحد المعسكرات في بساتين ريف دمشق. أدركت حينها أني وسط إحدى الكتائب الإسلامية، لكن لم يخطر ببالي أن أكون مع إحدى مجموعات «جبهة النصرة» التي يتحدث العالم عن سرية عالمها ووحشيته. أبو مالك في بلاد الشام اعترف لي أبو مالك أنه أحد أمراء جبهة النصرة، في بلاد الشام. كنت شغوفاً بالتعرف إلى هؤلاء الناس عن كثب، لكن في الوقت نفسه كان يساورني قلق رهيب. طلبت منه مقابلة مصورة فرفض لأسباب أمنية، قال نحن لا نظهر على الإعلام... فقلت، لا بأس، نتحاور إذن، أريد أن أفهم كيف تفكرون، أريد أن أناقشك بشكل واضح وصريح، لكن يجب أن تعطيني الأمان فما أنا سوى رجل أعزل بينكم... فضحك أبو مالك وقال لك هذا فالمسلمون أذلة في ما بينهم، قلت له قد أنشر يوماً هذه الحوارات، قال لا بأس، وأتمنى أن تنقلها بأمانة وصدق... ناقشت أبا مالك على مدار أسبوع، اقترب الحديث في أحيان كثيرة من المواضيع الحساسة وكاد يتجاوز الخطوط الحمر... وهذه أبرز محاور النقاش: عالم «القاعدة» كيف يتحوّل العنصر إلى مكفّر لكل مغاير ومن ثم إلى قاتل باسم الله؟. ما هي أبرز الخلافات بين القاعدة والتيارات الإسلامية؟ هل القاعدة فكر واحد أم أجنحة وما أبرز الخلافات بين فصائلها؟ وكيف يتورط هؤلاء بلعبة أمم لا يدركون أبعادها؟ عماد فكر السلفية الجهادية أو القاعدة كما يقول أبو مالك هو فكرة الحاكمية التي نادى بها سيد قطب وأبو الأعلى المودودي. هدف الإنسان المسلم أن يسعى إلى تحرير بلاد المسلمين من المستعمرين وإقامة شرع الله وإرسائه في الأرض. قال تعالى: «إن الحكم إلا لله»، فأي تشريع آخر هو تشريع باطل، أما السبيل لإقامة شرع الله في الأرض فهو برأي أبو مالك الجهاد والقتال وقد سميت سلفية جهادية لأنها تتبنى الجهاد وسيلة للتغيير، فكل من يؤمن بهذه الفكرة يصبح أخاً لنا في الدين. أما الركن الثاني فهو الولاء والبراء حيث يعتبر عناصر القاعدة أن كل من يعتنق هدا الفكر هو أخ مسلم ولا بد من موالاته ونصرته، وكل من يخالف هذه الاعتقادات فهو كافر ومرتد، ويجب البراء منه. سألته، عفواً أبا مالك، لكن كيف دخلت أنت إلى عالم «القاعدة»؟ أخبرني أن صديقاً له اصطحبه مرات عدة إلى شيخ يدعى أبا محمد في الأردن، وبعدها اقتنع بأقواله بأن غاية وجود الإنسان على الأرض هي تطبيق هذه الرسالة السماوية والانضمام إلى هؤلاء الإخوة لإقامة شرع الله في الأرض. ما هي الأهداف التي تسعون إليها؟ قال أبو مالك، إن الهدف الأساسي هو إقامة شرع الله في الأرض، لكن الأولويات تختلف من مكان إلى آخر قبل الوصول إلى هذا الهدف. فقد يكون الهدف طرد المستعمر كما بدأ في الثمانينات في أفغانستان مع المقاتلين العرب، وقد يكون الهدف استهداف المصالح الأجنبية كما بدأ الأمر في اليمن إبان التسعينات من تفجير للمدمرة كول عام 2000 وتفجير ناقلة فرنسية عام 2002 إضافة إلى استهداف سياح بريطانيين وأستراليين في أبين عام 1998، وقد يكون الهدف هو السيطرة على بعض المناطق، لإيجاد قاعدة للانطلاق وأماكن للتدريب والتجنيد، كما هي الحال في أفغانستان مع طالبان والقاعديين العرب. الجميع كفّار؟ اليهود والنصارى والبوذيون واليساريون والعلمانيون والقوميون هم كافرون برأي أبي مالك ولا نقاش في ذلك. أما بالنسبة إلى الطوائف الإسلامية فالشيعة كفرة وكذا الدروز، وفي ما يتعلق بالسنة، فإن كل من يشارك في العملية الديموقراطية والتشريعات المدنية هو كافر، وكل من ينتخب نواب الأمة هو كافر، وكل من لا يكفّر من ينتخب هو كافر، ودليله على ذلك: قول الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. فقلت له يا أبا مالك، أمام هذه النظرية، فإن كل من هو مخالف لفكركم هو كافر. ولا يبقى أحد مؤمناً على ظهر الأرض سواكم والرسول صلى الله عليه وسلم حدثنا أنه سيكاثر بأمته الأمم يوم القيامة، فقال أبو مالك: سيأتي يوم يعود فيه كل الناس إلى الإسلام الصحيح، حين تعود الخلافة إلى الأرض. استطردت في النقاش قليلاً معه حول ضوابط التكفير... وبصراحة بدأ القلق يتسلل إلى داخلي خشية أن يصدر علي حكم بالتكفير في نهاية المطاف... فبالطبع لن يتوافق كلامي مع كلامه... هنا عدت وأخذت ميثاقاً من أبي مالك ب «أن يفسح صدره لي، حتى لو وقعت في الكفر، فما أنا سوى طالب علم أسعى إلى معرفة المزيد عن حقائق ديني». فضحك أبو مالك، وقال لا تحزن أيها الصحافي، فديننا يدعو الناس إلى الله بالتي هي أحسن... فقلت بالتي هي أحسن! فماذا تقول عن صور القتل الشنيعة التي تضج بها مواقع التواصل الاجتماعي، من قطع للرؤوس وأكل للقلوب... فقال هذا استثناء وتصرفات شاذة ولا يتفق عليها كل تيارات «القاعدة»، وسأفصل لك الحديث في ما بعد. قلت له سنناقش هده النقطة بالتفصيل لكن بعد أن أنتهي من موضوع التكفير، لأنه موضوع خطير، وعليه تبنى الكثير من الأحكام والسلوكات الغريبة. قلت له لنضع أولاً بعض الضوابط قبل الخوض في الموضوع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كفّر مؤمنا فقد كفر. وفي هذا تحذير كبير للتريّث قبل تكفير أي إنسان. وقلت له إن المعلومات التي استقيتها من دراستي للشريعة الإسلامية في الأزهر تقول إن كلمة الكفر التي وردت في القرآن والأحاديث الشريفة لا تعني بمعظمها الخروج من الملة، بل هناك كفر دون كفر. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... فالزنا بالطبع ليس مخرجاً للإنسان من الدين بل هو معصية فالمقصود ليس بمؤمن أي ليس مكتمل الإيمان... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العهد بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر، وقال من حلف بغير الله فقد أشرك، فهذا كله كما يقول علماء الشريعة الكبار كفر دون كفر ولا يخرج من الملة. فالبخاري عنون أحد مباحث كتاب الصحيح: باب كفر دون كفر. وهذا الكفر يسمى كفر المعصية وليس كفر العقيدة ولا يخرج من الملة، بل سمي كفراً لترهيب الإنسان المؤمن وتخويفه حتى لا يتجاوز ويقع في كفر العقيدة، لأن هذه المعاصي إن لم يتنبه إليها الإنسان فقد تصل به إلى الكفر الأكبر. قلت له: إن علماء التفسير قالوا إن الكفر الذي ورد في الآية: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، هو كفر دون كفر وليس كفراً مخرجاً من الملة. لأن الله قال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. فقاطعني أبو مالك، وقال لي، لكن إن كان يعتقد أن الشرع المدني هو أفضل من شرع الله فهذا كفر صريح، قلت له سأسلم لك بهذا، ولكن كيف تعرف حقيقة اعتقاده، طالما أن الاعتقاد هو قناعة موجودة في العقل والقلب، كيف ستكشف عن قلبه. وقلت له حتى لو كان الأمر كما تقول فهو موضوع خلافي، ولا يجوز أن تكفر إنساناً إلا إذا خالف أمراً قطعي الثبوت والدلالة. إضافة إلى ذلك، فالرسول يقول «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» ألا تكفي كلمة التوحيد للعصمة من الكفر، خصوصاً أن الكثير من الناس عوام وليسوا مطلعين على فكر الشريعة وتفاصيلها. ثانياً: بالنسبة إلى طريقة إقامة شرع الله فليس باعتقادي أن الطريق الأسلم هو العنف، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث سنوات في مكة يدعو إلى الله سراً، ولم يقاتل قريشاً إلا بعد أن ذهب إلى المدينة وبادروه بالقتال، فالعنف لا يولّد إلا العنف، كذلك فإنه يصنع بيئة معادية للإسلام ويسمُ المسلمين بالإرهاب والناس يخشون منهم، ويترتب على ذلك مفسدة أكبر من المصلحة. القتال مشروع في الإسلام للدفاع عن النفس وطرد المستعمر ومحاربة الدكتاتوريات، أما إقامة شرع الله فتكون بالدعوة والتعليم والانتخابات وإقناع الناس وبالأطر السلمية، ضحك الرجل، وقام من مكانه وبدأ يسير بين الأشجار، أمسك حجراً بيده ورماه في بركة ماء أمامنا، قال بنبرة حادة استيقظ من أحلامك أيها الصحافي، هل تظن أنه سيسمح للإسلاميين إذا انخرطوا بالعملية السلمية بالتغيير إن وصلوا إلى السلطة، وإليك مثالين باديَين أمامك في الجزائر بداية التسعينات والآن في مصر. هم فقط يسمحون للإسلاميين بالدخول إلى العملية الانتخابية لاستيعابهم، ولكن حين يخرج الأمر من يدهم ينقضون عليهم وينكلون بهم ويضعونهم في السجون، والعالم كله متآمر معهم. التغيير لا يتم إلا إذا كان معك قوة، فالحق يحمى بالسيف. «الدولة الاسلامية» في اليوم التالي: اصطحبني أبو مالك إلى المكان عينه، بعض المقاتلين يتدربون ويلبسون عصابات سوداء، أشار أبو مالك إلى أحد الشباب، وقال هذا الشاب انشق عن جيش النظام السوري وأشار إلى آخر فقال هذا قاتل في العراق وذاك في أفغانستان، وكل هؤلاء القوم تركوا الدنيا وما فيها وجمعهم هدف واحد وهو إعلاء كلمة الله في الأرض. ذهبنا إلى كتيبة أخرى متحالفة معهم لكنها تابعة للدولة الإسلامية في العراق والشام، وصلت إلى أمير المجموعة ويدعى أبو القعقاع، أثناء الحوار معه أخرج لي الرجل هاتفه وطلب مني أن أشاهد فيلماً يذبح فيه أحد الكفار كما وصفه، قلت له متى قتلته قال منذ ثلاثة أيام. قلت له لمَ قتلته؟، قال هو كافر نصيري، قلت له هل قاتلكم، هل قتل أحداً منكم، قال لا، ولكنه مؤيد للنظام. قلت وهل يجوز قتل الإنسان إن كان مؤيداً للنظام ولم يقاتلكم، قال يكفي أنه نصيري، قلت له، وهل يجوز قتل أي إنسان لأنه فقط يختلف معكم في الدين أو في الرأي، قال لي كل من يناصر هذا النظام وكل من هو علوي وشيعي ونصراني هو كافر ويجب قتله. فقلت له يا رجل: هل يمكنني النقاش معك بهدوء لبعض من الوقت، فقال لي نعم. قلت أنت أمير هذه المجموعة وأفتيت بقتل إنسان منذ أيام... ألا تعرف أن الفتوى تحتاج إلى أن يكون الإنسان عالماً بأمور الدين؟ قال وأنا كذلك، قلت له: لكي ينتقل الإنسان من طور التقليد يجب أن يتقن عدداً من العلوم الإسلامية وإتقان هذه العلوم لا تجعل منه إنساناً مجتهداً بل تعني فقط أنه لم يعد مقلداً، فللاجتهاد شروطه، وهي مرتبة لا يصل إليها إلا من أفنى عمره في قراءة علوم الشريعة ودراستها. أتعرف هذه العلوم، قال نعم: الحديث والعقيدة والفقه. قلت له لا، بل أصول الفقه لأن علم الأصول يرشدنا إلى الضوابط والآليات التي من خلالها، وبناء عليها تستنبط وتستخرج الأحكام من القرآن والسنة، وثاني العلوم اللغة العربية، لأن القرآن نزل باللغة العربية، وهناك آيات يخرج فيها المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، ويخرج الأمر إلى معنى الاستفهام أو التهكم وهكذا، أما ثالث هذه العلوم فهو علم أصول الحديث، حتى نتيّقن من سلامة النقل وصحة المتن. قلت له يا أبا القعقاع هل درست هذه العلوم فقال: نعم... فقلت له ثمة بحث أساسي في علم أصول الفقه واسمه القياس أما عماد القياس فهو العلة... فهل لك أن تفرّق لي بين العلة والسبب: حاول الرجل أن يشرح لي الفرق بينهما لكنه لم يصب، وأوحيت له أن رأيه كان صحيحاً خشية أن يستاء مني، ويظن أني أسعى لإحراجه أمام كتيبته، بعد ذلك سألته عن الفرق بين الحديث المقطوع والمنقطع في علم أصول الحديث، فما درى شيئاً، وسألته بعض الأسئلة في اللغة العربية فتبين لي أن لا دراية له بمسائل بسيطة في اللغة العربية... في هذه اللحظات كنت أنظر إلى أبي مالك، تمنيت لو أني قابلت أبا القعقاع قبل أيام ثلاثة قبل أن يقتل الرجل، خلت أنه كان باستطاعتي أن أنقد حياته. سألت أبا القعقاع في أي مدرسة شرعية درست العلوم الشرعية، فأخبرني أنه درس على أيدي العلماء ولم يدرس في أي مدرسة أو جامعة، بدأت أشعر أن أبا القعقاع بدأ ينزعج من وجودي، فاستأذنتهم وعدنا أدراجنا. في الطريق، قلت لأبي مالك مستغرباً، يا أبا مالك هل يصح إصدار أحكام القتل بهذه الطريقة، فأخبرني أن الإفراط في قتل المخالفين هي إحدى النقاط الخلافية الأساسية بين مجموعات النصرة أنفسهم وبيننا وبين الدولة الإسلامية في العراق والشام... قلت له يا رجل، إنه قتل، وإلغاء لحياة إنسان ومن أخطر القضايا التي حذّر منها الدين، وتسيء إلى الإسلام والمسلمين... كما أنه لم يثبت أن الرجل الذي قتله أبو القعقاع كان يقاتل ضدكم. انتقلت إلى موضوع قتل المدنيين، وسألته هل يجوز قتل المدنيين بالتفجيرات، قال أبو مالك سأجيبك عن هذا السؤال يوم غد. مساء اليوم التالي وفي الساعة الحادية عشرة، اصطحبني أبو مالك إلى منزله، فتح جهاز الكومبيوتر، أراني عدداً من المقاطع المصورة المنشورة على مواقعهم، تشير إلى تعطيل الجبهة لبعض العمليات بسبب وجود بعض المدنيين. أخبرني أنهم لا يقتلون شيخاً أو طفلاً أو امرأة أو أي مدني إذا لم يكن هناك ضرورة. قلت له: هل كل عناصر جبهة النصرة يعتقدون بذلك، قال: للأسف لا، فهناك بعض العناصر والكتائب التي تقترب من فكر دولة العراق والشام تفتي بجواز قتل المدنيين أثناء تنفيذ العمليات، لكن هؤلاء قلّة في جبهة النصرة، ومعظمهم انضم في ما بعد إلى دولة العراق. قلت له: ماذا تقول عن التفجيرات في قلب العاصمة دمشق؟. اتهم أبو مالك النظام بالوقوف وراء معظم هذه العمليات، لكنه لم ينف أن تكون بعض المجموعات التابعة للنصرة أو لدولة العراق والشام هي من تنفذ هذه العمليات، ولهم اجتهاداتهم كما قلت لك، وسأفصلها في ما بعد حين نتحدث عن الخلافات بين أجنحة القاعدة. قلت له هل يعني أن ثمة تيارات داخل القاعدة، فقال لي بالتأكيد... وهنا أثارني الموضوع وطلبت منه أن يشرح لي جزءاً من هذه الخلافات لا سيما بينهم وبين الدولة الإسلامية في العراق والشام. تيارات القاعدة وأجنحتها 1- أكد لي أبو مالك أن كلا التنظيمين جبهة النصرة ودولة العراق والشام يحمل فكر القاعدة ويتبع أيمن الظواهري... لكن الفارق على صعيد التنظيم هو أن عناصر النصرة بمعظمهم سوريون، وهم أكثر قوة وتنظيماً من دولة العراق والشام، والسبب يعود لكونهم وجدوا قبلهم بأشهر عدة، وهم على دراية جيدة بالمناطق والبلدات السورية، كما أنهم لا يقتلون بشكل عشوائي كما تفعل دولة العراق والشام، وليس هناك من مانع شرعي بالتحالف مع بقية كتائب المعارضة، بعكس دولة العراق والشام التي وإن كانت تنفذ بعض العمليات المشتركة مع بعض كتائب المعارضة، لكنها لا تجيز التحالف معها لأنهم كفرة، ولا تتحالف سوى مع جبهة النصرة. 2-أما ثاني الخلافات بيننا وبين دولة العراق والشام، فهو أن دولة العراق والشام تستعجل الإعلان عن الدولة الإسلامية ولمّا يحدث الاستقرار والتمكين، وبعد أن تعلن الدولة تسعى إلى فرض الشريعة الإسلامية بشكل عنيف، فتهدم المقامات وتسوي القبور بالأرض، وتمنع التدخين، وتقيم الحدود حتى على الفتيان الصغار، وتغلق المحال حين يأتي موعد الصلاة، وتضرب كلّ من يفطر برمضان، وتنكّل بالمخالفين، الأمر الذي يفقدهم الحاضنة الشعبية. أما نحن، فنرى أن هناك أولويات، والأولوية هي إسقاط النظام حتى تستقر لنا الأمور، وبعدها نعلن قيام الدولة الإسلامية. 3- دولة العراق والشام تستهدف بشكل كبير أبناء الطوائف الأخرى، فتقتل كل من هو مسيحي أو درزي أو علوي أو شيعي، كما تقتل من السنة من هو مخالف لها، فقد قتلت أحد المشايخ البارزين في ريف حلب، لأنه ينتقد تصرفاتهم. هذه التصرفات التي نشهدها في بلاد الشام ومن قبل في بلاد الرافدين، دفعت الشيخ أسامة بن لادن ومن بعده الظواهري إلى توجيه رسالة حملت انتقادات كبيرة لسلوكات دولة العراق الإسلامية بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، ودعت إلى عدم قتل المخالفين لهم بالدين، إن لم يبادروا إلى قتالهم. 4- دولة العراق والشام لا مشكلة عندها في قتل المدنيين أثناء تنفيذ العمليات، حتى لو كانوا من السنة، وحتى لو كانت فوائد العملية ليست كبيرة، فهم يقولون إن المدنيين لا يعطّلون الجهاد. أما نحن فمعظم كتائبنا ترى عدم جواز تنفيذ العملية إن كان سيقتل بها مدنيون، كما بيّنت لك من خلال الفيديوات التي عرضتها عليك، والبعض يرى أن الأمر يتوقف على حجم العملية، فإن كانت العملية كبيرة، وعدد المدنيين الذين سيقتلون قلة فلا بأس، لأن المنفعة أكبر من المفسدة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى التفجيرات، فإن كان عدد الذين سيقتلون من «الكفرة» أكبر من عدد «المؤمنين»، فلا مانع من تنفيذ العملية. 5- دولة العراق والشام تسير على قاعدة: (واعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم) فتفتي بتهديم كنائس المسيحيين وحسينيات الشيعة لأن النظام يهدم مساجد السنة، وتبرّر الذبح لأن النظام يذبح، وتفتي بقتل أولاد مخالفيهم ونسائهم، لأن النظام يفعل ذلك، ولعلها قد تجيز استخدام الكيماوي لأن النظام برأيهم استخدمه أكثر من مرة... قلت له وأنتم ماذا تعتقدون؟ قال: هناك بعض المجموعات تحمل هذه الأفكار... قلت له: لكن الكثير من العلماء فسروا هذه الآية بخلاف ما تفسرونه. فالمقصود ب «اعتدوا» هو رد الاعتداء، لأنه من المحال أن يأمر الله بالاعتداء... ورد الاعتداء لا يكون إلا وفق الحدود التي نصّ عليها الشرع، فالشرع أوصى أن لا نقتل شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحد الإنسان شفرته أمام ذبيحته فكيف إذا كان بشراً، فيجب أن تبحث عن أيسر الطرق لقتله إن قاتلك طبعاً. لكن ما نشاهده من أفلام عبر اليوتيوب تظهر وحشية كبرى تنفّر الناس منكم ومن الإسلام... قال هذا موضوع خلافي بيننا، لكن حين ترى بعينيك الطريقة التي يقتل بها بعض المجاهدين، وما يلحق بجسده من تشويه، سيكون رأيك مخالفاً. سألته عن رأيه بالإخوان المسلمين، فقال هؤلاء إخوان الشياطين، فهم يتعاونون مع الكفرة والأميركيين، كما أنهم غير صادقين، وهم طلاب سلطة. وإن أتيح لهم المجال ليتحالفوا مع النظام ويعطيهم بعض المكاسب لتحالفوا معه. الإخوان المسلمون حكموا مصر، فماذا قدموا لنا، لا شيء. وهل ألغوا المعاهدة مع إسرائيل، بالطبع لم يفعلوا ولن يفعلوا لأنهم عملاء لها. التغيير برأينا يجب أن يتم بشكل جذري وثوري، وكل من يدخل في تشريعات الكفرة فهو كافر، والإخوان وافقوا على الدخول إلى العملية الديموقراطية، وساهموا في المشاركة بنظام لا يقيم شرع الله. بيادق في لعبة الأمم؟ فكرت كثيراً في هؤلاء الشباب، كنت على يقين أن فكرهم لا يخدم إلا أعداءهم، وأن تصرفاتهم تشوّه صورة الإسلام والمسلمين... وقد حاولت في اليوم التالي أن أنقل وجهة نظري هذه لأبي مالك. لم يُجِب أبو مالك عن تساؤلاتي فقد مات أتاني أبو مالك عند الفجر، صعدنا إلى سطح المنزل، كان القمر بدراً... دخلت في النقاش فوراً، كنت أظن أن كلامي سيقلب بعض الموازين. قلت له أخشى أن تكونوا تحوّلتم من حيث لا تدرون إلى أداة في يد الدول الكبرى، وتحركاتكم وجهادكم لا تخدم في نهاية المطاف إلا الأميركيين، كما حدث في أفغانستان. ضحك الرجل، وقال هل تقول هذا الكلام مازحاً، فقلت له لا!، فقال: يا رجل اتقِ الله، نظر إلى جبل قاسيون، وقال إن الشباب الذين رأيتهم يحملون داخل قلوبهم إيماناً أرسخ من هذه الجبال. قلت له لا أشك في ذلك، وما قصدت التشكيك في إيمانكم، وسأوضح لك وجهة نظري، قال تفضل: قلت له الإخلاص وحده لا يكفي يا أبا مالك، بل يجب أن تكونوا على دراية واطلاع بحسابات الدول الكبرى... وهنا أريد أن أسألك سؤالاً: لماذا يسّر لكم الغرب طريق الدخول إلى سورية؟ قال: الغرب لم ييسّر لنا، بل نحن قطعنا الحدود الوعرة وسرنا المسافات الطويلة حتى وصلنا إلى إخواننا، وكدنا نقتل مرات، وحدثني عن بعض رفاقه الذين قبض عليهم الجيش الأردني على الحدود... سألته: لماذا تركتم بلادكم؟ قال: أتينا لننصر إخواننا المستضعفين في سورية. فقلت له يا رجل، لا يمكن أن يدخل الآلاف من المقاتلين عبر الحدود التركية لو لم يكن هناك ضوء أخضر من الدول الكبرى أميركا وبريطانيا وفرنسا، كما حصل سابقاً مع المقاتلين العرب الذين قصدوا أفغانستان للقتال ضد الروس. قلت له أريد أن أقول لك شيئاً وفكّر به: الدول الكبرى سهلت لكم مهمة الدخول إلى سورية، لتتخلص منكم في البلاد التي تنتشرون بها، لا سيما بعد مقتل السفير الأميركي في ليبيا، كما أن الهدف الآخر للدول الكبرى هو إقامة توازن عسكري مع النظام السوري على الأرض، لأن إقامة هذا التوازن سيؤدي إلى إطالة الحرب في بلاد الشام، وبالتالي تدمير سورية وإخراجها من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي وإنهاكها في حرب أهلية. فالمعارضة السورية غير قادرة على الصمود في وجه النظام، وليس هناك من سبيل سوى الاستعانة ب «القاعدة». يريد الغرب أيضاً أن يسبغ على الحرب الدائرة البعد الطائفي، لا سيما أن حلفاء النظام من الشيعة والعلويين وأن معارضيه من السنة. أما الهدف الرابع، فهو القضاء على أكبر قدر منكم، فإن أي تسوية ستبرم في نهاية المطاف ستكون على حسابكم وستدفعون أنتم الثمن، لأن الطروحات التي تتقدمون بها لا يوافق عليها أحد، حتى الإسلاميين كالإخوان المسلمين فما بالك بالعلمانيين. قلت له في النهاية أخشى يا أبا مالك أن يكون هدف الأميركيين هو تدمير سورية وإشاعة الفوضى حتى لو سقط النظام، فأنتم بالطبع ستوجّهون بندقيتكم إلى الجيش الحر والأكراد والكتائب الأخرى إن سقط النظام، الأمر الذي سيدفع السوريين الثائرين إلى الاستجارة بالغرب لإنقاذ البلاد والتخلص منكم، وهنا يعود الأميركيون والفرنسيون والبريطانيون على حصان أبيض ليمسكوا بزمام اللعبة الاستخباراتية لسورية والمنطقة. وتصبح المقايضات، ثروات البلاد والسلام مع إسرائيل مقابل الاستقرار والأمن. أعتقد أن الكثير من المجموعات التابعة للنصرة ودولة العراق والشام مخترقة استخباراتياً، وسترى يا أبا مالك إن قيّض الله لك أن تعيش، أن الدولة الإسلامية حلم ووهم لا يمكن أن تتحقق على أيديكم في سورية، وأن القاعدة وحلفاءها سيتلقّون ضربة قوية وموجعة. قال أنتم الصحافيون حساباتكم دنيوية، أما نحن فنؤمن أن كل ما يحدث هو بتقدير الله. قال تعالى: وما النصر إلا من عند الله وقال أيضاً: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين... قلت ما هكذا تحسب القضايا، فالله قال وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة، والإعداد ليس فقط عسكرياً، بل يكون الإعداد بالعلم والتكنولوجيا وفهم الأولويات والتدرج وفهم موازين القوى العالمية وحساباتها. في اليوم التالي، ودعت أبا مالك... تواصلت معه بعدها مرات قليلة جداً. قبل أيام، أتتني رسالة .. كتب فيها... استشهد أبو مالك.