في السنتين الأخيرتين أصبح لدينا ما يمكن أن نسميه «يوغوسلافيا الجزيرة» بعد انطلاقة بث «الجزيرة بلقان»، التي كان طموحها أكبر من ذلك بكثير، ولكن ما تحقق كان متواضعاً بالمقارنة مع الواقع الجديد في البلقان. كانت البداية في ندوة نظمها «مركز الجزيرة للدراسات» في الدوحة خلال 18-19 كانون الثاني (يناير) 2011 عن «البلقان: الواقع والتحديات»، حين أعلن المدير العام السابق للقناة وضّاح خنفر في كلمته الافتتاحية عن سعي الادارة الى إطلاق قناة جديدة «الجزيرة بلقان» تغطي البلقان وتكون ل «كل الافكار والأديان والمذاهب لتصنع جسوراً للحوار والتفاهم بين مكونات العالم العربي والبلقان». ولكن كان من المستغرب ان خنفر قال في كلمته ان القناة الجديدة ستبث ب «اللغة البوسنوية» وستكون «قناة تجمع ولا تفرق». فنصف البوسنة (جمهورية الصرب التي تشغل 49 في المئة من البلاد) لا تعترف بشيء اسمه «لغة بوسنوية»، وبالتالي كان السؤال: كيف يمكن لقناة تبث ب «اللغة البوسنوية» أن «تجمع ولا تفرق» وأن تكون لكل البلقان ؟ كان من الواضح أن هناك مشكلة في فهم مكوّنات البلقان، وبالتالي حتى في تسمية القناة الجديدة، ومن هنا فقد اهتم مدير «مركز الجزيرة للدراسات» د. صلاح الدين الزين بما قلته عن ذلك وطلب مني تقديم تقرير بذلك ليحوله الى ادارة القناة. وبالفعل فقد أعددت تقريراً من خمس صفحات أبيّن فيه هذا الخلل في التوجه، ولكن يبدو ان التقرير انتهى به الامر في درج المدير لأن ما حدث لاحقاً كان يؤكد الاصرار على الاستمرار في الخطأ لأمر غير مفهوم. لغة أم لغات بلقانية؟ وهكذا بعد طول انتظار أُعلن في 11/11/2011 عن انطلاقة «الجزيرة بلقان» مع حملة تسويقية كبيرة، حيث ورد في تغطية الخبر في قناة «الجزيرة» العربية أن هذه القناة الجديدة (الجزيرة بلقان) ستبث «في لغة منطقة البلقان» وأنها «ستشمل 35 مليون مشاهد»، وهو ما تكرر في اليوم الثاني في الصحافة القطرية («الراية» و»الشروق» الخ...). ولكن لم يسأل أحد: هل هناك في الأصل ما يسمّى «لغة منطقة البلقان» وكيف لهذه اللغة أن «تشمل 35 مليون مشاهد»؟ بعد الأيام الأولى اتضح أن بث «الجزيرة بلقان» التي تتخذ من ساراييفو مركزاً لها يقتصر على ما كان يسمّى اللغة الصربوكرواتية التي كانت اللغة الاولى في يوغوسلافيا السابقة، والتي انقسمت مع انقسام يوغوسلافيا الى أربع لغات: الصربية والكرواتية والبوسنوية والمونتنغرية. وبعبارة أخرى مع هكذا «لغات» أصبحت «الجزيرة بلقان» تقتصر افتراضياً على أربع دول (صربيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الاسود/ مونتنغرو) يصل عدد سكانها الى حوالى 15 مليوناً. فبعد أكثر من عشرين سنة من انهيار يوغوسلافيا السابقة لم تعد الشعوب الاخرى في سلوفينيا ومكدونيا وكوسوفو معنية باللغة الصربوكرواتية ولم يعد الجيل الشاب يعرفها بعد أن كان يتعلمها في المدرسة كلغة ثانية أو في الجيش كلغة مشتركة مع بقية شعوب يوغوسلافيا. وإذا كان الأمر كذلك عند شعوب يوغوسلافيا السابقة فكيف الامر مع الشعوب الأخرى في ألبانيا وبلغاريا واليونان التي تتحدث لغات أخرى، وأين أولئك ال 35 مليون مشاهد الذين ستشملهم القناة الجديدة؟ ومع الشهور الاولى تبيّن ان «الجزيرة بلقان» تجري في «الاتجاه المعاكس». ففقد كانت يوغوسلافيا السابقة شبعت موتاً بعد الحروب التي اندلعت بين جمهورياتها السابقة (صربيا وسلوفينيا وكرواتيا والبوسنة)، وأصبحت كل دولة تسعى الى تناسي الماضي اليوغوسلافي بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي في أقرب وقت. وبعد نجاح سلوفينيا بذلك عام 2005 قُبلت مكدونيا في العام ذاته «دولة مرشحة» ثم لحقت بها كرواتيا التي أصبحت في 2013 العضو 28 في الاتحاد الاوربي. وهكذا في الوقت الذين كانت الغالبية منشغلة بالأفق الاوروبي الجديد كانت «الجزيرة بلقان» تحاول أن تحيي ما مات في تناولها للمواضيع التي تشمل الامور المحلية في صربيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الاسود - مونتنغرو. صحيح أن القناة كانت تتناول أيضاً بعض الاحداث الجارية في مكدونيا وبلغاريا وألبانيا واليونان ولكن كان ذلك لأجل المشاهدين المفترضين في صربيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الاسود وليس لأجل المشاهدين في تلك الدول التي لا تعرف شعوبها اللغة التي تبث بها «الجزيرة بلقان». بعد مرور سنتين على انطلاق «الجزيرة بلقان» يمكن القول انها نجحت في إيجاد «يوغوسلافيا مصغرّة افتراضية» بغض النظر عن الآلاف الذين يتابعونها في كل دولة من الدول الاربع المذكورة وعن المئات في كل من مكدونيا وكوسوفو وألبانيا وبلغاريا واليونان. صحيح أن «الجزيرة بلقان» تتميز بإنفاق سخي وتنوع في البرامج ولكن انطلاقتها تزامنت مع «الربيع العربي» وتسويق موقف معين من الاحداث الجارية في الشرق الاوسط. وقد بدا هذا بوضوح مع تغطيتها للأحداث المتسارعة في مصر خلال صيف 2013، وبخاصة بعد عزل الرئيس محمد مرسي، حيث أن تغطيتها كانت تميل الى جانب على حساب جانب. وتبيّن أن تأثير القناة محدود للغاية ضمن ال «35 مليون مشاهد»، حيث لم يخرج للإحتجاج على عزل الرئيس مرسي سوى العشرات في ساراييفو غالبيتهم من المصريين أو من أصول مصرية. هل تنجح 2014 ما فشلت فيه 1948؟ بعد سنتين من العمل على هذا المشروع الاقليمي الذي يمكن أن نسمّيه «يوغوسلافيا الجزيرة» لدينا الآن مشروع أكبر يحظى بدعم الاتحاد الاوروبي يمكن أن نسمّيه «يوغوألبانيا» مع أن تسميته الرسمية «مجموعة الست لغرب البلقان» WBG6. ويضم هذا المشروع الاندماجي القائم على مجلس برلماني وسوق مشتركة الخ... صربيا والبوسنة والجبل الاسود ومكدونيا وكوسوفو والبانيا، أي انه يشمل طرفين أساسيين: سلاف الجنوب أو اليوغوسلاف الذي يشكلون غالبية في صربيا والبوسنة والجبل الاسود ومكدونيا، والالبان الذين يمثلون غالبية في كوسوفو والبانيا وأقلية في مكدونيا وصربيا والجبل الاسود. وبحسب الجريدة الكوسوفية الاولى «كوها ديتوره» (عدد 25 /9/2013) فإن هذه الاستراتيجية التي أطلقتها جمهورية الجبل الاسود أخيراً تحظى بدعم ستيفان فوله مفوض شؤون التوسع في الاتحاد الأوروبي وعُقد لأجلها أخيراً اجتماعاً في مدينة بودفا الساحلية ضمّ ممثلي الدول الست المذكورة. وبحسب هذه الاستراتيجية فإن هذه الرابطة الجديدة ستساعد الدول الست على تسريع اندماجها بالاتحاد الاوربي حتى 2023، لأن هناك تفاوتاً بين هذه الدول حول مدى اقترابها من بروكسيل وبالتالي فإن وجودها في مثل هذه الرابطة يساعد على الاستفادة من التجارب الناجحة. فبعد انضمام كرواتيا للاتحاد الاوربي تبدو الآن جمهورية الجبل الاسود هي المرشحة لتكون العضو ال 29 وتليها صربيا التي ستبدأ المفاوضات مع بروكسيل للانضمام الى الاتحاد في مطلع 2014، في حين ان البوسنة ومكدونيا وكوسوفو متعثرة وتحتاج الى مساعدة وخبرة الدول المجاورة. وبذلك فمن المأمول أن ينبثق ذلك في 2014، وهي السنة التي يتم التعويل عليها للاحتفال بإنجاز من هذا النوع في الذكرى المئوية لشرارة ساراييفو التي أطلقت الحرب العالمية الاولى. وتجدر الاشارة هنا الى انه في ربيع 1948 كادت أن تتحقق «يوغوألبانيا»، حيث عرض الزعيم اليوغوسلافي الراحل تيتو على الزعيم الالباني أنور خوجا أن تشكل ألبانيا وكوسوفو «جمهورية سابعة» في الاتحاد اليوغوسلافي، ولكن الخلاف بين ستالين وتيتو وانحياز خوجا الى ستالين في صيف 1948 قضى على هذا المشروع في مهده.