يوم طرح وزير الخارجية الفرنسي الأسبق روبرت شومان فكرة الوحدة الأوروبية في ربيع عام 1950، كان دافعه الأول إرساء القواعد الاقتصادية والسياسية لمشروع تكاملي متدرج، من شأنه أن يجنّب أوروبا الانزلاق إلى مواجهة عسكرية جديدة بعد تجربة حربين مدمرتين في أقل من ثلاثة عقود، ونزاعات متواصلة منذ القرن السابع عشر. كان الهاجس الأول لشومان منع تكرار الصدام بين ألمانياوفرنسا عبر ربط مصالحهما الاقتصادية والسياسية. وتبين بوضوح في مذكراته اقتناعه الراسخ بأن المشاعر والنزعات القومية المتأصلة عند معظم الشعوب الأوروبية، هي بيت الداء الذي تحركت فيه معظم الصراعات على امتداد قرون. وفي المبادئ التأسيسية التي قامت عليها «مجموعة الصلب والفحم»، النواة الأولى للاتحاد الأوروبي، «أن أوروبا لن تُبنى دفعة واحدة وفقاً لمخطط واحد... بل انطلاقاً من إنجازات ملموسة تهدف في المقام الأول إلى ترسيخ التعاضد». ليس مستغرباً أنه كلما اهتزّ المشروع الأوروبي، بفعل الأزمات الاقتصادية أو السياسية أو المؤسسية، كلما جنحت النزعات القومية الانفصالية إلى الظهور في شكل بارز. لكن بما أن الكل يعلم أن في الترسانة القانونية الأوروبية ما يكفي من ضوابط تشريعية واقتصادية لإجهاض أي مشروع استقلالي، بالمعنى الدستوري، يبقى الهدف الحقيقي من التصعيد اقتطاع المزيد من الامتيازات والصلاحيات من الحكومات والإدارات المركزية. الفلامنكيون في بلجيكا، الاسكتلنديون في المملكة المتحدة، الكورسيكيون في فرنسا، اللومبارديون في إيطاليا، الباسك في إسبانيا... والآن كاتالونيا. عندما شهر الكاتالانيون مشروعهم الاستقلالي قبل عامين، كانوا يدركون أن الطريق مسدود في نهايته، لكن الأحزاب والقوى القومية، التي تشكل الغالبية في الإقليم، مضت في التصعيد محشورة ضمن دائرة المزايدات بين المعتدلين والمتشددين وطامعة في الحصول على مكاسب إضافية من مدريد. ولا شك في أن من العوامل التي دفعت بالكاتالانيين إلى المغالاة في تصعيدهم، الضائقة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها إسبانيا منذ سنوات، وأزمة الثقة السياسية التي تتخبط فيها كل المؤسسات، من الحكومة إلى البرلمان والمؤسسة الملكية والقضاء، وبخاصة الأحزاب السياسية، ما دفع بكثيرين إلى المطالبة بإعادة النظر جذرياً في المنظومة الإدارية التي تقوم عليها دولة الحكومات الذاتية. لم يتراجع الكاتالانيون عندما أبلغتهم المفوضية الأوروبية أن الأبواب القانونية موصدة في وجه المشروع الاستقلالي، ولم تثنهم هزيمة الانفصاليين الاسكتلنديين عن المضي في التصعيد. وعندما أفتت المحكمة الدستورية الإسبانية بإلغاء الاستفتاء، قررت الحكومة المحلية في كاتالونيا تنظيم «استطلاع»، في شكل انتخابات عامة يشارك فيها كل المقيمين في كاتالونيا، واثقة من قوة التأييد الشعبي التي من شأنها أن ترفع منسوب الضغط على الحكومة المركزية التي تعرف أن لا مناص من العودة إلى التفاوض معها في الأيام المقبلة. ولا بد من الاعتراف بأن الكاتالانيين، على رغم التجذر العميق لمشاعرهم القومية والتأييد الكاسح لمطلبهم الاستقلالي، أبقوا النزاع في دائرة المواجهة الحضارية ضمن حدود القانون، بعكس ما شهدته مناطق الباسك في العقود الماضية من أعمال عنف وإرهاب على يد منظمة «ايتا» التي قررت أخيراً دمج مشروعها الاستقلالي في اللعبة السياسية. لكن تكفي مواكبة مباراة بكرة القدم بين فريقي برشلونة وريال مدريد، وما يرافقها من تعبئة اجتماعية وتجييش إعلامي، لاكتشاف أن ثمة أكثر من «داحس والغبراء» بين هذين الخصمين اللدودين، وأن فصل البارحة ليس سوى نهاية البداية في مواجهة مديدة.