يخيّل لمن يمرّ اليوم قرب المعهد العالي للفنون المسرحية، الكائن في ساحة الأمويين في دمشق، أنه تحول من الأكاديمية التي كان عليها إلى ثكنة عسكرية تابعة لمبنى هيئة الأركان القابعة في مواجهته. ويأتي هذا الإحساس نتيجة الاحترازات الأمنية التي أُحيط بها مبنى المعهد خوفاً من هجوم مسلّح على مبنى الأركان أو مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون الذي يحاذيه. في هذا المكان، وبرغم كلّ الظروف الصعبة التي تجعل إقامة عرض مسرحي أمراً شبه مستحيل، تعرض اليوم مسرحية «الدانائيات» مشروع ارتجال لمصطفى القار، وريمي سرميني، وسينوغرافيا حسين تكريتي. ينطلق العرض من شخصيتين الأولى هي «جبري» (مصطفى القار)، سجّان وُضع في زنزانة بعد موت أحد المعتقلين تحت يديه عند فشله في نزع اعتراف منه، والثانية هي «فيديل» (ريمي سرميني)، معتقل سياسي منتسب إلى رابطة العمل الشيوعي المعارضة، زُجَ في المعتقل لانتمائه السياسي. ويؤدي اجتماع الشخصيتين في زنزانة واحدة إلى خلق علاقة جديدة بين السجّان والسجين، بحيث يغدو كلٍّ منهما ندّاً بعدما جمعتهما جدران واحدة وتحوّلا إلى سجينين متساويين، بغض النظر عن انتمائهما. يحاول جبري السيطرة على هذه العلاقة من خلال سيطرته على الزنزانة، بدايةً بالقمع وانتهاءً عند انتخابات شكلية يحظى فيها بحق التحكم بمقاليد «سلطة الزنزانة». فيستبدّ بكلّ شيء، إلى حدّ أنّه يتحكّم في حركة فيديل ضمن حدود يضعها، ليُصبح بشخصيته هذه رمزاً للنظام المستبِد. وفي الجهة المقابلة، يحاول فيديل التمرد على قمع السجان بأشكال سلمية حيناً وعنيفة حيناً آخر، يضاف إلى ذلك خوفه من قدرة السجانين على انتزاع اعتراف منه يودي بحياة زوجته وأخيه المعتقلَين، محاولاً إسقاط كلمات «الثورة السورية، رابطة العمل الشيوعي، حرية» من ذاكرته. ومن ثمّ يصنع بروفات تعذيب مع جبري ليختبر مدى قدرته على الصمود أمام السجان، لكنه يفشل في مواجهة قسوة جبري الذي أحال اللعبة إلى حقيقة. ينتهي الأمر بالشخصيتين عند دخول شخصية خارجية غريبة تعيد وضع حدود حركة الشخصيتين، مجبرةً إيّاهما على صب الماء في وعاء مثقوب من الأسفل في حالة تحاكي أسطورة لعنة «الدانائيات»، اللواتي حكم عليهن زيوس سكب الماء في وعاء مثقوب، في دلالة على الحالة العبثية التي صار إليها الوضع السوري اليوم، وسُبل الحلّ الأجنبي. جرت هذه الحكاية في فضاء مسرحي واقعي ساهمت السينوغرافيا في بنائه من خلال تحويل المرسم الخامس المخصص لطلاب السينوغرافيا إلى مكان عرض بديل لخشبة المسرح التقليدية، حيث تم اقتسام القاعة إلى حيزيّ عرض وجمهور، يتداخلان من خلال وضع بعض الأغراض المسرحية مكان المتفرج، يستخدمها الممثلان على امتداد المسرحية. والتصاق حيّز المشاهدين بفضاء العرض الذي تمثل بزنزانة تحتوي على سريري سجناء متقابلين توسطهما بابان، الأول يفضي إلى أروقة السجن، تُرمى منه الأطعمة إلى السجينين، والثاني إلى الحمام الذي استعمل كحلّ للمشاهد التي تحدث. إن الحِرَفية في عمل السينوغراف لم تُغطِّ بالكامل على غياب مخرج يعرف كيف يضبط مفاتيحه، فلم تحمِه من الوقوع في أخطاء إخراجية، كان منها عدم مراعاة منظور المشاهِد في الأماكن التي كانت على يمين حيز العرض. ومن شاهدَ العرض من ذاك المكان بقيَ عاجزاً عن رؤية وجه جبري في مشاهد جلوسه على سريره، غائبة عنه كل تعابير وجه الممثل. غياب المخرج لم يكن له التأثير ذاته على أداء الممثلين اللذين أظهرا حرفية مبكرة كطلاب في سنتهم الرابعة، إذ تمكن القار وسرميني من امتلاك مفاتيح الشخصيات التي أشرفا على بنائها أثناء بروفات الارتجال، متمكنين من الإفلات من فخ المبالغة في الأداء لا سيما في مشاهد لعبة التعذيب. كذلك استطاع سرميني ضبط صوته كممثل في مشاهد صراخه عند عجزه عن نسيان انتمائه السياسي. وفي الوقت عينه، تميزت حركات القار بعفوية غاب عنها الأداء الميكانيكي المبتذل. من المؤكد أن الجمهور السوري لن يُجمِع على الرؤية التي تبنتها المسرحية في ظل تضارب الآراء حول ما يجري في سورية اليوم. ولكن ما سيُجمع عليه الجمهور هو أنّ مسرحية «الدانائيات» هو العرض المسرحي الوحيد الذي تمكن من طرح مقاربة شفافة وعميقة لواقع الحال السوري، منذ انطلاقة الثورة السورية حتى اليوم.