هل تكفي زلة لسان لجعل حصن ينهار؟ وهل يمكن هفوة أن تعرّي هشاشة الديكتاتورية وضعفها؟ نعم، قد تكفي زلة لسان - وهذه من سخريات التاريخ. كانت القاعة تغص بالصحافيين في مساء ذلك اليوم الخريفي عام 1989، وكان الجميع في حالة ترقب: كيف سيواجه حزب الاتحاد الاشتراكي الحاكم أعنف أزمة سياسية يمر بها منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الديموقراطية؟ كانت البلاد تشهد آنذاك موجات هروب جماعية إلى الغرب، كما كانت التظاهرات العارمة تجتاح برلينالشرقية والمدن الأخرى للمطالبة بالحريات وبحق السفر وفتح حدود «السجن الكبير» المسمى ألمانيا الديموقراطية. طوال ساعة كاملة راح غونتر شابوفسكي، المتحدث الرسمي باسم الحزب الحاكم في برلينالشرقية، يردد العبارات الإيديولوجية المستهلكة، حتى همّ الصحافيون في الانصراف. وعندما سأله أحد الصحافيين سؤالاً عن الإجراءات التي تعتزم الحكومة اتخاذها، تذكر أن سكرتير عام الحزب الحاكم كان قد أعطاه قبل المؤتمر ورقةً تخص قانون السفر الجديد. وهكذا أخذ يبحث عن هذه الورقة حتى يستند إليها في كلامه، إذ لا يكره مسؤول في دولة شمولية شيئاً مثل تحمل المسؤولية، ولذلك لا بد من إلقاء المسؤولية على آخر، والآخر هنا هو سكرتير عام الحزب. لم يكن شابوفسكي يعلم أن تلك الخطوات التي تنوي الحكومة اتخاذها لم تصدر رسمياً بعد، وأن مجلس الوزراء لم يكن قد اعتمدها. كان يظن أنه يقرأ قراراً ساري المفعول، وبناء عليه قرأ الاقتراحات على أنها قانون نافذ، وعندما تعالت نداءات الصحافيين تتساءل: متى سيسري القرار، ارتبك شابوفسكي أكثر، وأجاب الإجابة التاريخية: فوراً - منذ الآن! بسبب سوء التفاهم هذا، أو زلّة لسان شابوفسكي، انهار الجدار الحصين «المناهض للفاشية» كما كان يحلو لسياسيي المعسكر الشرقي أن يطلقوا على جدار برلين. أذاع الصحافيون نبأ السماح لمواطني ألمانياالشرقية بالسفر، وعلى الفور تدفّق الآلاف إلى حدود ألمانياالشرقية وإلى جدار برلين العتيد الذي كان قد شيّد قبلها بثمانية وعشرين عاماً. وسرعان ما انهار الستار الحديدي الفاصل بين الشرق والغرب. هذه الحكاية حقيقية، حدثت بحذافيرها في مساء التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989. عندما نطالع تفاصيلها الآن تبدو لنا حكاية عبثية كوميدية. ربما لذلك اختار الكاتب البرليني الشرقي توماس بروسيغ أسلوب السخرية والكوميديا ليتناول موضوع سقوط الجدار في روايته «أبطال مثلنا» التي تنتمي إلى جنس الرواية البيكارسكية أو روايات الشطار. «أنا الذي اسقطت الجدار» «نعم، صحيح. أنا الذي أسقطت جدار برلين»، يقول بطل رواية بروسيغ، «وسأحكي لكم كيف حدث ذلك، فمن حق العالم أن يعرف حكايتي، وبخاصة أنها حكاية ذات مغزى. ثم يضيف أن المؤرخين يتحدثون كثيراً عن نهاية تقسيم ألمانيا، و»نهاية الحرب الباردة أو حتى نهاية التاريخ، ولكنه لا يعترف بكل هذه النهايات. الحقيقة هي أن «حكاية انهيار الجدار حكاية قضيبي». وهكذا يسرد أولتشيت هذه الحكاية في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» مدعياً أنه هو الذي أسقط جدار برلين الحصين بقضيبه المنتصب. بعد ست سنوات على انهيار الجدار، أي في عام 1995، كان الناس، شرقاً وغرباً، يتشوّقون إلى قراءة رواية تحدثهم عن تلك الفترة التاريخية التي انتهت بزوال الستار الحديدي وسقوط المعسكر الشرقي. لذلك نفدت الطبعة الأولى من «أبطالٌ مثلنا» في غضون شهر واحد، واحتلت صدارة قائمة «البيست سيلر» شهوراً طويلة، وسرعان ما تحوّلت الرواية إلى مسرحية ثم إلى فيلم سينمائي ناجح. كانت «أبطال مثلنا» محاكاة ساخرة لفترة تراجيدية، ومحاكاة أيضاً لجنون العظمة الذكوري الذي كان سائداً على جانبي الجدار. نجح الكاتب الشاب توماس بروسيغ في أن يضع يده على عصب تلك الفترة. كان الناس قد استمعوا إلى حد السأم إلى حكايات عن معاناة ضحايا النظام الشمولي في ألمانياالشرقية، عن الشتازي (جهاز أمن الدولة) وجرائمه البشعة، وعن الصراع الإيديولوجي بين المعسكرين. تناول بروسيغ كل هذه الموضوعات بسخرية لاذعة وأسلوب مرح، فكأنه كان يحرر قرّاءه من ثقل الماضي - بالضحكات. الأسلوب نفسه اتبعه بروسيغ في روايته اللاحقة الناجحة «في الجزء الأصغر من شارع الشمس» (التي صدرت ترجمتها العربية لدى دار شرقيات المصرية بترجمة هبة شريف). ولم تكن رواية «أبطال مثلنا» هي التناول الروائي الأول لموضوع الوحدة الألمانية، إذ سبقتها بأربع سنوات رواية أخرى لكاتب مخضرم من الغرب هو فريدريش كريستيان دليوس. «إجاص ريبيك» هو عنوان الرواية الذي يحيل إلى قصيدة للشاعر والروائي الألماني تيودور فونتانا (1819 - 1898). في هذه الرواية الرمزية يأتي الألمان الغربيون إلى بلدة ريبيك لكي يخططوا لإقامة احتفال ضخم تكريماً لفونتانا، وليكون الاحتفال في الوقت ذاته احتفالاً بالوحدة بين الشرق والغرب. ينظّم الغربيون كل شيء، ثم يزرعون شجرة إجاص، رغم أن الشرقيين كانوا قبلها قد زرعوا شجرة مماثلة. ويتفجّر نزاع - ساخر ورمزي - حول المكان التاريخي الدقيق الذي زُرعت فيه آنذاك شجرة فونتانا. كانت الشجرة الغربية تبدو جميلة، لكن ثمارها بلا نكهة أو طعم. أما شجرة الشرق فكانت متواضعة المنظر، لكن ثمارها شهية. لوحة فسيفسائية وإذا كان تناول موضوع سقوط الجدار ساخراً في البداية مع «أبطال مثلنا» أو «إجاص ريبيك» أو «شارع الشمس» فقد أصبح جاداً متأملاً على يد الروائي إنغو شولتسه المولود في دريسدن في شرق ألمانيا عام 1962. كانت روايته «قصص بسيطة» - والتي صدرت ترجمتها العربية في مصر عن المشروع القومي للترجمة - حدثاً أدبياً كبيراً، فاحتلت صدارة قائمة أفضل المبيعات فترة طويلة، وترجمت إلى ما يزيد عن خمس وعشرين لغة. تتكوّن الرواية من تسع وعشرين «قصة بسيطة» تبدو بلا رابط، غير أنها ترسم معاً لوحة فسيفسائية كبيرة تُظهر حياة المواطنين في ألمانياالشرقية إثر انهيار جدار برلين. نجح شولتسه - الذي يعتبر مؤرخ الحياة في شرق ألمانيا - في أن يمسك بتلك اللحظة التاريخية التي أعقبت انهيار جدار برلين، وأن يعبر عنها روائياً، وهو ما تابعه في روايتيه اللاحقتين «حيوات جديدة» و»آدم وإيفيلين». الوحدة الألمانية كانت أيضاً موضوع رواية غونتر غراس «مجال شاسع» التي صدرت في عام 1995، وتدور أحداثها بين سقوط جدار برلين (9/11/ 1989) وتوحيد ألمانيا (3/10/1990). غير أن «مجال شاسع» تلقي نظرة بانورامية على التاريخ الألماني منذ ثورة 1848 حتى 1990. حقّقت الرواية نجاحاً تجارياً كبيراً، كما أنها أثارت جدلاً صاخباً، لا سيما بعد أن أصدرت مجلة «شبيغل» عدداً على غلافه صورة الناقد الأدبي الشهير مارسيل رايش رانتسيكي في صورة كلب يمزق رواية غراس. وكان أحد أسباب الجدل حول الرواية - إلى جانب الشكل الفني المعقد والإطالة والإسهاب - هو انتقادات غراس الحادة للوحدة الألمانية وتخوّفه من «تغوّل» ألمانيا الموحدة. ومن الروايات التي تناولت سقوط جدار برلين بعيون مهاجر رواية «سلام يا برلين» (صدرت عام 2003) للكاتبة التركية الأصل يادا كارا. حسن، بطل الرواية، يتأرجح بين إسطنبول، مسقط رأس عائلته، وبرلين، المدينة التي ولد فيها. وأخيراً يقرّر العودة إلى برلين، وكان ذلك يوم سقوط الجدار. والرواية تسجيل للتغيرات التي شهدتها المدينة. وما زالت الروايات والأعمال الأدبية التي تتناول خبرة التقسيم تتوالى في ألمانيا، معظمها من كتّاب ولدوا ونشأوا في الجزء الشرقي من البلاد، فالجدار كان أكثر حضوراً في حياة الشرقيين. وكمثال على ذلك رواية «البرج» الضخمة لأوفه تلكامب التي صدرت عام 2008، وكذلك رواية «عند تلاشي الضوء» لأويغن روغه التي ستصدر ترجمتها العربية التي أنجزها أحمد فاروق قريباً لدى دار المطبوعات اللبنانية. أما أحدث الكتب التي تتناول تقسيم ألمانيا فهو كتاب «هناك وهناك - طفولتان ألمانيتان» الصادر قبل أسابيع عن دار «روفولت»، وهو عبارة عن كتابين في مجلد واحد. عندما يطالع المرء الكتاب من ناحية يجد اسم الكاتب (الشرقي) يوخن شميت (مواليد 1970) الذي يتحدّث عن طفولته وصباه في برلينالشرقية، ثم يقلب المرء الكتاب ليجد اسم الروائي (الغربي) دافيد فاغنر (مواليد 1971) الذي يتحدث عن طفولته وصباه بالقرب من مدينة بون عاصمة ألمانيا الغربية سابقاً، وينتهي كل جزء بفصل عن يوم التاسع من تشرين الثاني 1989، يوم سقوط الجدار. في ذلك اليوم التاريخي كان دافيد فاغنر يفكر في الذهاب إلى الديسكو، مثل كل يوم خميس. أما يوخن شميت فكان قد بلغ في ذلك اليوم التاسعة عشرة. لم تكن هناك فرصة للاحتفال بعيد ميلاده، إذ كان يخدم في جيش ألمانياالشرقية. ليلة عيد ميلاده قضاها كلها في الخدمة في وحدته، رغم ذلك تحتم عليه الاستيقاظ في الخامسة فجراً ليتولى مع مجموعته تحضير الطعام في المطبخ. عندما سمع عن «فتح الجدار»، لم يكترث كثيراً، إذ كان كل ما يفكر فيه هو النوم بضع ساعات. للمزيد حول هذه الذكرى: مجاز الجدار الفلسطيني بعد أمثولة بريلن - فخري صالح