يشير الفرنسيّ ديفيد فوينيكوس في روايته «ناتالي والبحث عن الرقّة» (ترجمة راغدة خوري، دار دال، سوريا، 2013) إلى الدور الذي تلعبه المصادفة في حياة المرء، وكيف تقوده من اتّجاه إلى آخر، في الحين الذي يظنّ نفسه استدلّ إلى طريقه في الحياة، أو استكان لما اختاره لنفسه أو لما اختير له وفق الظروف المتاحة أو المفروضة. يعالج فوينيكوس في روايته طرق تعامل بعض الناس وفق مبدأ الربح والخسارة المجرّد، من دون إيلاء الاهتمام للمشاعر، كما يلفت الانتباه إلى أنّ حميميّة المشاعر واتّقاد الأحاسيس لا يرتبطان بشريحة من دون أخرى، وأنّ المرء قد يعثر على الحبّ المفتقد الذي ينشده ويحلم به في أكثر الأمكنة التي لا يتوقّعها أو لدى أناس يكونون جنبه لكنّه غافل عنهم ولا يكترث بهم. يغوص فوينيكوس داخل حياة الأنثى ويصوّر كيف أنّها لا تتعلّق بالشكل والمظهر، وكيف أنّ المعاملة الرقيقة تجذبها وتجعلها لا تشعر بثقل مرور الزمن. كما يغوص في الطبيعة البشرية للعلاقة المزدوجة بين الرجل والمرأة، وانعكاس ذلك على المجتمع المحيط. من ضمن معاني الرقّة التي ترد في سياق الرواية، والتي يذكّر بها الروائيّ في أحد الفصول، النعومة الفائقة والرهافة، وقد تشير إلى الهشاشة حين يقال: صحة سريعة العطب أو ضعيفة، كما قد تحيل إلى وضعية أو حالة خطرة. والشخص الرقيق الذي يظهر نوعاً من الحساسية الشديدة، أو الذوق الرفيع يوصف بأنّه: شخص مرهف الحسّ، والنباهة. كما قد يحضر معنى سلبيّ للرقة، وذلك حين وصف أحدهم بأنّه صعب الرضى، أو عنده حالة من التظاهر بالحساسية. بطلة الرواية ناتالي، وهي امرأة جميلة في مقتبل العمر، تلتقي مصادفة زوجها فرانسوا، تجمع بينهما لقاءات، يقرّران بعدها الزواج، تسير حياتهما بوتيرة طبيعيّة، ورغم تباين هواياتهما إلاّ أنّهما ينعمان بسعادة استثنائيّة، تخشى ناتالي أحياناً أنّ سعادتها الكبيرة قد تكون مثيرة للمخاوف، وتبعث في نفسها بعض التطيّر، وتحاول إخفاء سعادتها حرصاً منها على استمراريّتها. في لحظة فارقة يفقد فرانسوا حياته إثر دهسه بسيّارة وهو يجتاز الطريق، يغيّر الحادث حياة ناتالي، يقلبها رأساً على عقب، يحوّلها من امرأة غاية في السعادة إلى امرأة بائسة تعيسة، يحرص جميع مَن حولها على إيلاء الاهتمام بها وإخراجها من عزلتها ويأسها، لكنّها تتشبّث بحزنها المديد، وتظلّ مسكونة بطيف زوجها الراحل، تحاول الاحتفاظ به حيّاً في ذاكرتها، لكنّها لا تملك بدّاً من الرضوخ للأمر الواقع، فتعاود الذهاب إلى عملها، عساها تبدأ دورة جديدة في الحياة. تتعرّض ناتالي لمحاولات إغواء من قبل مديرها شارل الذي يجهد لإرضائها، يتردّد إلى بيتها في محاولة منه للتقرّب منها، يواسيها، يحاول إقناعها بإكمال حياتها بعيداً من الحزن الذي يتلبّسها، لكنّه في الوقت الذي يحاول فيه لفت انتباهها والفوز بحبّها وصداقتها، يتسرّع في مبادرته فيفقد احتمالات المناورة، ويقع في فخّ الغرائز الحسّيّة، في الوقت الذي تفتقد فيه ناتالي الرقّة والحبّ. وبينما ناتالي منغلقة على نفسها، متكتّمة منعزلة، تفاجَأ بماركوس، وهو أحد العاملين تحت إمرتها، يحظى باهتمامها، وفي لحظة جنون واندفاع تبادر إلى خطف قبلة منه، وفي ظل توتر ماركوس وصدمته يحار في ما يفعل، ولا سيّما أنّه صعق بالمفاجأة السارّة، ثمّ بعد أخذ وردّ من قبله، يسعى بعد أيّام إلى معاملتها بالمثل، يسرق منها قبلة ويخرج فوراً من غرفتها، يتركها لأحاسيسها كما فعلت به من قبل. تكون تلك المبادلة الغريبة المفاجئة بينهما شرارة حكاية حبّ كبيرة لاحقاً. بعد ضغط من قبل شارل على ماركوس وناتالي، ومصارحته لهما بأنّ الجميع يتحدّث عن علاقتهما، قدّم العاشقان استقالتهما، كما صفعا شارل كلّ واحد منهما في مكان منفصل. يفكر ماركوس أنّ ما يجري له قد يقوده إلى الألم، وخيبة الأمل، والدرب المسدود المروّع الذي سوف يسلكه. وبالرّغم من ذلك كانت لديه رغبة في المضيّ قُدماً. كانت لديه رغبة في الذهاب نحو قدر مجهول. كان يعلم تماماً أنّ هناك جسراً بين جزيرة الألم، وجزيرة النسيان، وتلك، التي تذهب إلى أبعد من ذلك، إلى جزيرة الأمل. تعود ناتالي إلى قرية جدّتها، وفي المشهد الأخير تبدو كأنّها تعود بذاكرتها إلى الوراء، وكان ماركوس، عند سيره في تلك الأمكنة، إنما كان يقتفي آثار ألمها، يعبر على أمكنة دموع حبها. بمتابعته السير باحثاً عن مخبأ، كان ماركوس يسير أيضاً فوق كل الأمكنة التي سارت فيها ناتالي بعد ذلك. يبرز الكاتب أنّ ما يفرضه المرء على نفسه من تصحّر الحياة يتبدّد بمجرّد مصادفة مَن يكون له تأثيره البارز في قلب المعادلة، بحيث ينعش الأمل ويبعث التفاؤل في النفس، ويعيد البسمة التائهة. كما يذكر أنّ تأثير أيّ حادث لا يقتصر على طرف بعينه، بل يطاول الطرف الآخر المتسبّب بها. وفي هذه الحالة لا يقتصر تأثير الحادث الذي أودى بفرانسوا في ناتالي فقط، بل تكون هناك شارلوت التي دهست فرانسوا، تتغيّر حياتها أيضاً، تعاني تأنيب ضمير دائماً، تتعطّل حياتها، تظلّ مسكونة برعب القتل، ولا تفتأ تتذكّر كيفيّة دهسها لفرانسوا. كانت تعلم في أعماقها أن لا خيار لها، وأنّها ملزمة بمتابعة عملها، برغم إدراكها أنّ لا شيء يمكن له أن يعود كالسّابق، فهناك أمر ما قد كُسر بعنف في حركة أيامها. يستعين فوينيكوس أحياناً بذكر نتائج بعض المباريات في رياضات مختلفة، كرة القدم، التنس، الملاكمة، وكأنّه يدفع إلى إجراء محاكاة بين التنافس الرياضيّ والتنافس الحياتيّ للاستحواذ على شخص أو الظفر بحبّه، ويتناول بعض الآليّات والسبل التي يلجأ إليها مختلف الأطراف للوصول إلى غايتهم والفوز في رهانهم ومباراتهم الحياتيّة المتجدّدة، والتي تكون أيّة نتيجة فيها قابلة للتغيير في جولات لاحقة متتالية، لأنّها لا تنتهي عند نقطة معيّنة، بل تظلّ دائرة مستمرّة. كما يستعين بالعديد من الروايات التي تكون بطلته ناتالي مهتمّة بها ومنكبّة على قراءتها، تراها تعاود قراءة رواية لخوليو كورتاثار الذي يحضر في أكثر من فصل في الرواية، وكذلك يتمّ التذكير بمارغريت دوراس وألبير كوهين ودان فرانك وغيرهم من الكتّاب الذين أثّروا بكتاباتهم في حياة الشخصيّة وساهموا في تعريفها بالعالم، وبذاتها.