تتوغّل الروائيّة إميلي ريلنكر في روايتها «عودة الشاعر» (ترجمة هلا فرحات، الحكايات، بيروت) في استجلاء عمق العلاقة التي تربط بين الجلّاد والضحيّة، وكيف أنّ الحبّ والبغض يشكّلان محرّكين فاعلين مؤثرّين في جوانب مهمة من وجوه الحياة. تبدأ ريلنكر بتصوير مشهد وصول طائرة إلى مطار هايتي تحمل على متنها كاتباً يدعى شارل توسان ومحرّرة من دار النشر اسمها هيلين، تكون مرافقته في رحلة العودة إلى الوطن، بعد أكثر من أربعين سنة من الإبعاد السياسيّ، بدعوة رسميّة وصريحة من الحكومة. تحمل عودة شارل توسان في طيّاتها الألم والراحة، يوقن أنّه سيعيد ذكريات السجن والعذاب والموت، ذكرياته كسجين سياسيّ لأنّه كتب قصيدة اعتبرت انقلابيّة، وعُذِّب لأنّه ساعد جاراً محكوماً عليه بالموت من قبل النظام القائم، يحمل شارل ذكرياته المؤلمة التي تمتزج بحنين لا حدود له لوطنه، حيث كلّ التفاصيل التي ظلّت تسكنه وأبَت أن تفارقه في منفاه. يتذكّر ذاك الضابط المشاكس الدمويّ أركيبالد الذي كان قد أمر بتوقيفه وإحالته إلى الموت من دون سبب ظاهر، ثمّ أقصاه إلى المنفى لأسباب غامضة. تصف الكاتبة كيفيّة بدء مسلسل الصدمات والمفاجآت لمرآه في هايتي، ابتداء بموظّف المطار الذي يستغرب وجوده حيّاً، وهو يختتم له جوازه، لأنّه كان يظنّ كغيره أنّه قضى في السجن، مروراً بالناس والقرّاء، وصولاً إلى أصدقاء طفولته. يكون القنصل في استقباله في المطار، تقام له مراسم استقبال رسميّة احتفاء به وبعودته، أثناء الطريق من المطار إلى الفندق، تتحلّى هيلين بجرأة إحراج القنصل الذي يتجاهل أسئلتها، تكون الطريق نافذة للإطلال على أوضاع الناس هناك، تحوّل نظر هيلين التي لم تعد تعيش أبداً شقاء شعب مقهور بانقطاع حاكميه عنه وقلّة حيائهم وعدم مبالاة المجتمع الدوليّ بهم، بل أعجبت برؤيتها لهم يقضون يومهم سعداء في بلدٍ صعب وكريم. تصف الراوية كيف أنّ حدسَ هيلين يُنبئها أنّ هناك ما يحاك لشارل، لذلك حرصت في الفندق على حمايته عازمة على عدم تركه بين أنياب أولئك السياسيّين الأجلاف المتعطّشين لحضوره، في حين أنّهم هم الذين نحروه منذ سنوات سابقة بالنفي. يلتقي شارل في الفندق بخصمه أركيبالد، يتفاجأ بالحميميّة التي يبديها. يعترف شارل بأنّه يتيم البلد وأنّ هايتي تبنّته وأنّه ليس ابناً عاقّاً. ثمّ يتمّ التخطيط للمحاضرة التي سليقيها شارل في إحدى المدارس في المناطق الداخليّة، يعتذر القنصل عن إمكانيّة إيصالهما بسيارة الليموزين، يترك لهيلين فرصة تدبير طريقة للوصول، يتكفّل بتحمّل مصاريف الطريق، تلجأ هيلين إلى السائق جيفري الذي يتودّد إليها بغلاظة ويلاطفها بفجاجة، ثمّ يقبل بإيصالهما مقابل مبلغ كبير. بعد جهدٍ مضنٍ، وصلوا إلى المدرسة التي استقبلت شارل بمحبّة وبهجة، وعاش أجواء ساحرة في حفلة راقصة، شهدت لقاءه مع عبق الماضي وحيويّة الحاضر وتفاؤل المستقبل، كما شهدت استذكاره للأموات من أصدقائه. أثناء ذلك ألحّ جيفري على هيلين بوجوب العودة قبل حلول المساء، كاتماً توجّساً لم يصرّح به، وخلال العودة كان حاجز للشرطة يقطع الطريق، خطّط جيفري لتجاوزه على طريقته الخاصّة، لأنّه أيقن أنّ هناك فخّاً للتخلّص من شارل، لم يأبه لمعاتبة وسخط هيلين، لأنّه كان مشغولاً بإنقاذهما. بعد تخطّي الحاجز بمشقّة ومجازفة، أفصح جيفري أنّ أركيبالد يلاحق شارل، وهو الذي أرسل في إثره عصاباته المسلّحة للقضاء عليه، ويكتشف مع هيلين أنّ هناك رصاصة قد أصابت شارل، يحاول مساعدته وإيقاف النزف، ثمّ يذهب للبحث عن مساعدة طبّيّة، يبقيهما في مكانٍ ناءٍ معزول، حينذاك يبدأ موقف هيلين يتغيّر من جيفري، وخصوصاً حين لمحت تعاطفه مع شارل الذي كان يردّد لهيلين أكثر من مرّة قبل ذلك، إنّه يجب ألّا نرى بغير القلب، لأنّ الشيء الجوهريّ لا تراه العيون. يمازحها شارل في تلك الحال بأنّه في الرواية المقبلة التي لن تتسنّى له فرصة كتابتها سيجعلها بطلة للرواية ويجعل جيفري رفيقاً لها. يلوذون بامرأة ذات قدرات خارقة ذائعة الصيت في المنطقة، تطبّبه بطريقة غريبة، ولم تملك هيلين أيّ خيار آخر سوى الاستسلام للوقائع، وبعد الاطمئنان على شارل عند العجوز تندمج مع جيفري وتقضي ليلتها في حضنه، فينقلب إحساسها إزاءه من خشونة إلى نعومة وحبّ وتعلّق. روت لها العجوز حكاية جيفري الذي أتى إليها بعد وفاة زوجته الشابّة، وظلّ عندها بعد إتمام طقوس التأبين، ثمّ تطوّره بعد استقراره في البلدة، تحار هيلين في شعورها نحو جيفري، تختلط مشاعرها، تكون في قرارها حائرة بين غربته وخشيته من تكرار تجربة قاسية عاشها مع زوجته. وتعاظمت حيرتها حين قابلها جيفري تالياً ببرود، لتتوه بين الحزن ورغبة الانتقام نتيجة إهماله لها. تعود هيلين إلى واقعها، تحاول تخطّي شعورها بالعجز كونها ضائعة في بلدٍ عدائيّ مع سيّد عجوز مجروح يحيط به أعداء كثر، عند ساحرة، وتحت عناية مجهول متقلّب الطباع متباعد لا يمكن الاعتماد عليه ولو كان قلبها يشجّعه. يرفض شارل إخراجه من سريره وإرساله إلى أيّ مكان للمعالجة، لأنّه اختار أن يقضي لحظاته الأخيرة في هايتي بين الناس الذين يحبّهم ويحبّونه. يعترف شارل بأنّه مصاب بالسرطان منذ أكثر من سنتين، ويقرّ بأنّ تلك الرصاصة ليست هي ما قتله، بل مقابلته صديقه القديم اللدود أركبيالد. يرغب بالموت على أرض أجداده، بعد أن حقّق كلّ أمنياته، يوصي هيلين وهو يودّعها بوجوب متابعة قلبها والنظر من خلاله إلى الأمور والمستجدّات. في الفصول الأخيرة تنفكّ خطوط الحبكة، بخاصة بعد أن تلتزم هيلين تطبيقَ وصايا شارل بالتأبين والدفن، لتتوالى الألغاز بالانفكاك أمامها رويداً رويداً، اكتشفت أنّ شارل كان قد أحبّ فتاة اسمها إليزا، وكان أركيبالد محبّاً للفتاة نفسها، ولذلك اضطهده، فكان أن تزوّجته إليزا ليستطيع شارل أن يذهب لمنفاه حيّاً، وماتت بعد ذلك حزناً وكمداً عليه. ولم ينسَ أركيبالد تسبّب شارل بوفاة إليزا فأصرّ على الانتقام منه. كانت هيلين ترى في جيفري الرجل المثلثّ الصفات، المتهكّم الفظّ، الأرمل ضحيّة كرمه، وحبيب الليل، علّقت الآمال على أن يكون في صَهْر تلك الشخصيّات ما يؤدّي إلى معرفة ذاك المجهول النائم. ارتاحت له حين تصارحا بطباعهما وازدواجيّتهما الواجبة في التعامل مع المحيطين بهما، وكان اللقاء بينهما عناقاً عاصفاً محا ترسّبات الماضي وأوجاعه وجعلهما بريئين من كلّ مأساة. أتمّا حلم شارل بأن أصبحا بطلَي آخر رواية لم تتسنّ له فرصة كتابتها. تحوّلت الجنازة إلى كرنفال، كان جيفري وهيلين البطلَين المتقمّصين شخصيّتي شارل وإليزا الهائمين بروحيهما في المكان. صارحها جيفري بخطّة أركيبالد اللئيمة في استدراج شارل من خلالها، والاتّفاق معه على تصفيته، مقابل خدماتٍ كبيرة يقدّمها له، في حين أنّه غيّر رأيه بعد أن ذهب معهما في ذاك المشوار، وقرّر أن ينقذهما من حقد أركيبالد، يمنحها سبباً لتركه في البلدة والذهاب برفقة مديرها الآتي من باريس للالتحاق بعملها هناك في دار النشر. تتعاظم القلاقل عندها بعد الابتعاد عن جيفري، ترفض عرض مديرها بالزواج، تتبع قلبها، تعمل بنصيحة شارل لها، لتتفاجأ بجيفري أمامها في باريس بعد أيّام، ترتمي بين أحضانه لائمة سعيدة في الآن نفسه، مكتشفة آخر الأسرار التي يزيح جيفري النقاب عنها بخروجه من هايتي. رامت ريلنكر في روايتها تقديم صورة من التعلّق بالوطن، ومدى العدائيّة المستفحلة والبغض الذي يتراكم ليُودي بالمرء في صراع الحبّ والحقد. وتصوّر أنّ عودة الشاعر عنَت عودة الروح إلى أولئك الذين زارهم والتقاهم، وإلى الأماكن التي مرّ بها، بحيث إنّ العودة تقاطعت مع بثّ حياة جديدة في الكائنات والأمكنة.