في كتابها الثالث عشر تتناول أليس مونرو البداية والنهاية في قصص تحفل بالانفصال والحوادث والمرض والقتل والموت، وتعارض عنوانها. «سعادة أكثر مما يجب» الصادرة في بريطانيا عن دار «شاتو أند وندوس» تؤكد قول الشاعر الانكليزي «الطفل أبو الانسان» في بقائه داخلنا حتى النهاية، واطلالته على الكيان البالغ في وعيه ولا وعيه. طاولت صفة المحلية الضيقة المرتبطة بالأدب النسائي مونرو التي اعترفت بأنها قد تكون ككاتبة «مفارقة زمنية لأنني أكتب عن أماكن الجذور في وقت لم يعد الناس يعيشون هذه الحياة مطلقاً». ترصد آخر الحائزين جائزة مان بوكر الدولية الحياة الرتيبة المبعثرة التي منحت قصصها سمة «الروائية»، وأحبطت الشخصيات الباحثة عن عن شكل حاسم يؤطر أيامها ويمنحها غائية. في قصة «حفر عميقة» تنشغل امرأة برضيعتها أثناء نزهة، فيزوغ طفلاها الآخران ويقع أحدهما في حفرة ينقذها منها والده البارد عاطفياً. يتسبب الحادث بعرج الطفل الذي يقطع علاقته بوالديه عندما يبلغ. تحاول الأم مصالحته وتفشل عندما يوافق أخيراً على لقائها. لكن ما يزعجها، الى خسارته، خلو حياتها من الطابع المصيري الذي يسم حياته. في قصة أخرى ينزلق فرانك على الثلج في الغابة فتجهد زوجته شبه المقعدة من المرض لانتشاله. تقعده الاصابة وتستعيد هي نشاطها فيدرك أنه مستاء لنهاية اعتمادها عليه، ويخالط فرحه بعودة عافيتها شعور بالخسارة. يولد طفل بعلامة فارقة كبيرة تشوهه في «وجهه»، ويشبهها والده الغليظ بقطعة كبد تلوث وجهه. يكافح ليصبح ممثلاً اذاعياً ناجحاً لكنه يعجز عن نسيان «المأساة الكبيرة» في حياته. أحب اللعب مع نانسي طفلاً ثم قاطعها عندما ظن أنها أساءت اليه. يعرف حقيقة الأمر بعد أعوام من والدته، ويتمنى لقاءها متسائلاً ما اذا كان ذلك سيغير شيئاً. «الجواب بالطبع، ولبعض الوقت، وليس بتاتاً». في «ذرات حرة» ترفض الأرملة العجوز نيتا وصف الأدب ب «المهرب» وتجده أكثر انطباقاً على الحياة الحقيقية. عندما يدخل بيتها قاتل مريض نفسانياً تعرف من صوته أنه ليس الكهربائي كما ظنت أول الأمر، وتستغل قدرتها على حبك القصص لتبقى حية بعدما أكل طعامها وسرق سيارتها. في «أبعاد» تنهك عاملة تنظيف في فندق نفسها بالعمل ساعات طويلة لكي تستطيع النوم من دون أرق بسبب مأساة عائلية. تقول احدى الشخصيات ان القصة القصيرة «مخيبة. تبدو كأنها تنقص سلطة الكتاب، وتظهر الكاتب شخصاً يتعلق بأبواب الأدب بدلاً من أن يستقر داخله». لكن مونرو (79 عاماً) تبحث عن مرجعية زمنية أو مكانية أو انسانية، وتستبطن شخصياتها لتجمع التفاصيل المشتتة وتجد معنى في عبثية الأحداث الكبيرة. تحلل امرأة «وقوع» زوجها النجار في حب مساعدته. يموت طفل من ارتفاع حرارته في طريقه الى المستشفى وسط ازدحام السير قبل عيد الميلاد. يموت رجل مسنّ لا يشكو من علة على الرصيف أمام متجر. وفي قصة حقيقية تخرج مونرو من جنوب غربي أونتاريو لترافق الروائية وعالمة الرياضيات الروسية صوفيا كوفالفسكي في ترحالها الأوروبي وإدراكها قبل موتها بالتهاب الرئة ان السعادة الأساسية أوضح لها من الشعور الغامض بالمصير على رغم انجازاتها الكثيرة. العبور الى الشمال يخلص جون ارفنغ في روايته الثانية عشرة لأسلوبه التقليدي الأخلاقي في الكتابة وإن أضاف جديداً باعتماد الريف حيزاً مكانياً وخفف من الملامح الغرائبية لشخصياته. «ليلة البارحة في النهر الملتف» الصادرة في بريطانيا عن دار بلومزبيري تدور في مخيم لقطع الأشجار، وتحفل بانفجار البنادق وصدام السيارات وخطر الدببة والأطراف المقطوعة والمصارعة. تبدأ الرواية في منتصف الخمسينات من القرن الماضي في نيوهامبشير، وتمتد خمسة عقود تتابع خلالها الطباخ دومينيك وابنه دانييل اللذين يكدحان ليكسبا عيشهما الى أن يقتل ابن الثانية عشرة عاملاً من غير قصد، ويهرب مع والده الى كندا. يطاردهما نائب الشريف عبر الولايات الشمالية فيغيّران اسميهما، ويصبح الطباخ صاحب مطعم ثرياً والفتى كاتباً شهيراً يؤلف روايات تشبه أعمال ارفنغ. لا يترك الكاتب الأميركي تفصيلاً واحداً يفوته في رسم شخصيات ذات صدقية «حقيقية» وتسجيل الأحداث السياسية والاجتماعية في اعادة بناء للعالم الذي يحتاج اليه ليستطيع الكتابة. وسط هذه المساحة الواسعة تبرز من الشخصيات الثانوية ليدي سكاي التي تحب الهبوط عارية بالمظلة، العمة فيلومينا الهادئة التي تزود دانييل بالدرس الجنسي التطبيقي الأول، والحطاب الشديد الغرابة كيتشوم الذي يماثل اسمه اسم البلدة التي انتحر فيها ارنست همنغواي. تراجعت شعبية ارفنغ في العقدين الأخيرين بين القراء والنقاد بعدما برز أول الثمانينات برواية «العالم وفق غارب» ثم «قوانين معمل عصير التفاح» وكلاهما حوِّل فيلماً، فتحفته «صلاة لأوين ميني» التي هجت حرب فييتنام. باعت رواياته عشرة ملايين نسخة، ونال جائزة الكتاب الوطنية عن «العالم وفق غارب» وأوسكاراً عن سيناريو «قوانين معمل عصير التفاح». بطلاه روائيا القرن التاسع عشر، الانكليزيان تشارلز ديكنز (كلبه يدعى ديكنز) وجورج إليوت (ماري آن ايفانز) وفكر برواية عن طباخ وابنه منذ 1986. أصيب بسرطان البروستات منذ عامين وأحس أن رصاصة مرت قرب أذنيه، على أن الموت كان متوهج الحضور في أدبه منذ البداية. كان في الثانية عندما انفصل والداه، ومنعت والدته الأب من رؤيته. نشأ في وسط نسائي من الأم والخالات والجدة، وامتنع الجميع عن اجابة أسئلته عن والده فظنه وحشاً الى أن اكتشف وهو بالغ أنه لم يكن كذلك. كان طفلاً منعزلاً، مدمناً الشجار، فشجعته والدته على تعلم المصارعة، وعلم في ما بعد أن والده جون بلانت حضر بعض المباريات التي خاضها. كان في الحادية عشرة عندما عرّفته شابة في عشريناتها الى الجنس، وجعلته يميل الى أمهات صديقاته ويفضل النوم مع النساء الأكبر سناً الى أن ولد ابنه الأول وفكر أن عليه فعل المستحيل لكي لا يواجه الموقف نفسه. بعد وفاة والده بخمسة أعوام اتصل به أحد أولاده من زواجه الثاني وأحس انه كسب أسرة ثانية. سئل عما ينقذ في حال نشوب حريق، اضافة الى ما يكتبه فقال: «صورة والدي وهو في الرابعة والعشرين بلباس طيار في الحرب العالمية الثانية». على رغم ذلك لم يحاول العثور عليه، ويتكتم بالقول ان زوج والدته كولن ارفنغ، الذي حمل اسمه، كان طيباً للغاية ولم يشأ الاساءة اليه. المسرح والقصة إثر وفاته في 2005 عن تسعة وثمانين عاماً جمعت ست قصص نشرها آرثر ميلر في الصحف في كتاب بعنوان «حضور» غابت عنه أفكار مسرحه الكبيرة وهمومه الأخلاقية الملحّة، وأضاء بدلاً من ذلك لحظات خزنتها الذاكرة بين الطفولة والشيخوخة. احتفظت دار بلومزبيري البريطانية بالعنوان نفسه في الكتاب الذي أصدرته أخيراً، وضم الى القصص الست مجموعتين سابقتين. ميّز الكاتب الأميركي في المقدمة بطبقية صريحة بين المسرح الجليل العظيم والقصة «العرضية» التي تشكل مجرد فرصة يهرب اليها من «الحرارة الرهيبة» لخشبة المسرح. على أنه بدا هو نفسه منقسماً: صلب الايمان بالعدالة والحرية والمعتقدات اليسارية مسرحياً، ومشككاً بجدوى التزامها وبالطبيعة البشرية قاصاً. قال أثناء كتابة «البوتقة» ان «ضمير الفرد وحده يمنع العالم من الانهيار»، ورأى في الثمانينات أن مهمة المسرح «التغيير والنهوض بوعي البشر بالاحتمالات فيهم». الفارق بين مسرحه وقصصه يبدو بكل بساطة المسافة بين الحلم والواقع. تستعيد جانيس في «فتاة عادية» التزامها حركة الحقوق المدنية وزواجها من فرانك الشيوعي الذي أعماه عداؤه للفاشية وبرّر اغتصابه امرأة ألمانية في الحرب. آمن الزوج بأن الرفيق ستالين «يعرف ماذا يفعل» ولم يجد أستاذ الجامعة الوجودي سبباً يمنع تحرشه بها في مكتبه. تفكر بخيبة في تاريخ اليسار الأميركي ولا تجده في حاضرها. «عندما أفكر في الكتّاب الذين اعتقدنا كلنا أنهم كبار، ولا يعرف أحد اليوم أسماءهم(...) كل ذلك الأدب تلاشى ببساطة. رحل». يفقد الكاتب المتوسط العمر في «المخطوطة العارية» قدرته على الكتابة واهتمامه بجسد زوجته. يحاول استرجاع الشغف المهني والعاطفي بالكتابة على جسد امرأة عارية، ويتذكر كفاحه السابق. كانت الكتابة يسارية على نحو رومنطيقي، وارتعش فيها دائماً جرس من الاحتجاج الشجن، ولئن كانت هذه الكتابة بريئة أول الأمر «فإنها باتت مكرورة بعد ذلك كما كان متوقعاً». في «مقطرة التربنتين» يزور أميركي حالم هاييتي في الخمسينات ويقرر مساعدة السكان الفقراء ببناء معمل يستخرج التربنتين من الأشجار. لكن المشروع يفشل ويؤكد شك الرجل في قدرة السياسة على تحسين السلوك البشري. تسطع النار وتخبو بين المراهقة والعمر الثالث. في «بولدوغ» يقرأ فتى في الثالثة عشرة اعلاناً عن كلب للبيع ويشتريه بثلاثة دولارات تشمل تدشينه الجسدي على يد صاحبة الكلب. الزوجة الجميلة الهشة في «من فضلك لا تقتل شيئاً» تذكر بزوجة ميلر الثانية مارلين مونرو لدى القراءة عن «وهج وجهها وجسدها المذهل». في «حضور» تنتقد امرأة لا مبالاة زوجها المسن فيستيقظ متوتراً ويمشي وسط الضباب الصباحي ليرى امرأة ورجلاً يمارسان الجنس على الشاطئ. يهجو حس النصر في الثقافة الأميركية الذي يحدد هوية الفرد ومركزه الاجتماعي. لا يجد مهاجر بولندي أحداً يقدّر ثقافته في مجتمع يراه إما فاشلاً أو ناجحاً لا انساناً له اسم. يحضر الماضي البعيد، في الثلاثينات والأربعينات، بجذوره الايطالية واليهودية خصوصاً، وتفاصيل حياة الطبقة العاملة التي يجل الكاتب كدحها. يتذكر هارولد ماي اليهودي في «أداء» رقص فرقته في برلين أمام هتلر الذي فتن بأدائه، ويلاحظ نجاحه في المناطق التي يكثر فيها العمال.