عندما قرأتُ خبراً في «الحياة» عن صدور كتاب «نقولا الحداد الأديب العالم» للباحثة سلمى مرشاق سليم (الناشر «دار الجديد»)، تذكرتُ أن أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي في ثلاثينات القرن الماضي ذكر الحداد في مقدمة كتاب «نشوء الأمم» بصفته مؤلف كتاب في العلوم الاجتماعية. عندما حصلت على الكتاب وأنهيتُ قراءته تبين لي أن المؤلفة وضعتنا أمام كاتب نهضوي (1872 – 1954) من مستوى رفيع، ولكن للأسف لم يحظَ بما يستحق من اهتمام. عبارة سعادة هي التالية: «... ومنذ ألف إبن خلدون مقدمة تاريخه المشهور ووضع أساس علم الاجتماع، لم يخرج في اللغة العربية مؤلف ثانٍ في هذا العلم فظلت أمم العالم العربي جامدة من الوجهة الاجتماعية، يتخبط مفكروها في قضايا أممهم تخبطاً يزيد الطين بلة. ولا نكران أن الكاتب الاجتماعي السوري نقولا حداد وضع مؤلفاً معتدل الضخامة سماه «علم الاجتماع». ولكن هذا الكتاب من النوع المدرسي ولا يأمن قارئه من الشطط. وهو مع ذلك المحاولة الأولى من نوعها، على ما أعلم، لفتح طريق علم الاجتماع الحديث». كتاب سلمى مرشاق سليم من النوع التوثيقي، فهو يرصد ما نشره الحداد من كتب وأبحاث ومقالات في الفترة من أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. وتكشف الباحثة أنه كتب في الرواية والقصة والعلوم الطبيعية والاجتماع والسياسة. ويهمنا الصنفان الأخيران، علماً بأن غالبية كتاباته تحمل رسائل أخلاقية واجتماعية تصب في توجهه الفكري العام. على صعيد الكتابات الاجتماعية، يُعتبر «علم الاجتماع» الذي صدر في جزءين بالقاهرة سنة 1925 أهم ما أنجزه الحداد. لكن يتبين لنا أنه نشر أيضاً عدداً كبيراً من المقالات والأبحاث في الشأن الاجتماعي يمكن اعتبارها مكملة للكتاب. وهذه كلها لا تزال في بطون الدوريات المصرية تنتظر من ينفض الغبار عنها. وكتب الحداد مبكراً في المسألة الفلسطينية. ففي العام 1929 نشر مقالات يدين فيها بريطانيا ويهاجم الحركة الصهيونية بشدة، مركزاً على حقوق الفلسطينيين مقارنة بلا شرعية المطالب اليهودية. أما في الأعوام من 1947 إلى 1949، فكانت مقالاته تغطي ناحيتين: عجز القيادات العربية آنذاك عن مواجهة العدوان الصهيوني، وفظاعة المأساة التي حلت بالفلسطينيين من جراء ذلك العدوان. والحداد متميز في مواقفه تلك، مقارنة بصمت الغالبية العظمى من الكتاب والأدباء «الشوام» المقيمين في الأراضي المصرية في ذلك الوقت، وكذلك لامبالاة معظم الكتاب والأدباء المصريين الذين لم تكن المسألة الفلسطينية تعني لهم شيئاً، خصوصاً في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. ويمتاز الحداد أيضاً بأنه كان من أبرز المنظرين للاشتراكية في تلك المرحلة المبكرة، وأصدر كتاباً مهماً في ذلك الموضوع. وقد نجحت المؤلفة في الإحاطة الكاملة بكل ما تناول أعماله، كما استطاعت أن توثق لمقالاته المنشورة في الدوريات المصرية، وهي ما زالت مجهولة حتى الآن. ولفت نظري ما ذكرته المؤلفة في مقدمة كتابها من أن أستاذها ويلتون وين المشرف على أبحاث البكالوريوس في الجامعة الأميركية في القاهرة رفض اقتراحها بوضع دراسة عن الرائدة النهضوية لبيبة هاشم، واقترح بدلاً من ذلك إجراء بحث عن موقف ثلاث صحف مصرية من مبدأ عدم الانحياز!! وقالت المؤلفة إنها واجهت موقفاً مماثلاً عندما كانت تدرس في الجامعة الأميركية في بيروت لنيل درجة الماجستير. ما تقوله المؤلفة يتوافق مع حالات مماثلة عرفناها شخصياً في عدد من الجامعات الأوروبية، إذ كان الأساتذة المشرفون على الدراسات العليا يوجهون طلابهم من الدول العربية إلى أبحاث اجتماعية وسياسية واقتصادية يمكن لحكومات الدول الغربية، لاحقاً، الاستفادة منها وتوظيفها في المخططات الاستراتيجية المعدة لمنطقتنا. بعد هذه الفقرة الاعتراضية، أعود فأقول إن غياب أي اهتمام بتحقيق كتابات نقولا الحداد الموزعة في عدد من المطبوعات الدورية وعدم إعادة طبع كتبه الأساسية مثل «علم الاجتماع» و «الاشتراكية» و «الديموقراطية: مسيرها ومصيرها»، هما الوجه الآخر لانحياز التعليم الجامعي الغربي الذي كشفت عنه المؤلفة... فإهمالنا نحن هو الذي يُغيّب الأصوات التي كانت تبشر بفجر النهضة القومية عربياً!