أحداث مصر تجد مداها في تجربتين مغايرتين في كل من تونس والمغرب. وفيما ينشغل الشارع التونسي بحراك يتوخى إطاحة حكومة «النهضة» وشركائها في الترويكا، ينحاز المغاربة إلى التأقلم مع حكومة نصف ملتحية. ما إن تقترب إلى السقوط حتى تأتيها النجدة في صورة عجلات إغاثة حزبية. لأن الأزمة المصرية نتاج زمانها في الأسباب والخلفيات والتداعيات، فإن إقرار بعض الحركات الإسلامية في بلدان الشمال الأفريقي بعدم وجود صلات قرابة وانتساب إلى أصولية «الإخوان المسلمين» يشكل تطوراً لافتاً. ذلك أنه في الوقت الذي دانت السلطة للتيار الإسلامي في مصر اعتبر الأمر نصراً لكافة الحركات الإسلامية التي انتعشت من تأثير الحراك. وعلى عكس ذلك أقرت الحركات نفسها مسافات أبعد حيال «الإخوان» لدى معاينتها التطورات التي آلت إلى عزلهم من السلطة. سواء كان الأمر يتعلق برد فعل سياسي ذي خلفية براغماتية، أو بمعاودة ترسيم خطوط اللقاء والتباعد بين الحركات الإسلامية ذات المرجعية الواحدة، فإن تأثير الحالة المصرية سيستغرق فترة أطول. أقله لجهة استمرار الجدل حول حدود الإسلام السياسي في إخفاق أو نجاح تجارب ممارسة السلطة. وبالقدر الذي استطاعت هذه الحركات أن تقدم بديلاً مقنعاً ومغرياً لاستمالة ناخبين ضجروا من استبداد السلطة واحتكارها، بالقدر نفسه آلت تجاربها القصيرة في الحكم إلى تغذية التململ والنفور. ولأن الشارع هو نفسه، فإن السؤال يطرح نفسه حول مكامن الإخفاق وطرائق معالجة الأزمة. ما دامت النظرة الاستئصالية أثبتت فشلها من الطرفين. في العادة أن إخفاق حزب سياسي في التجارب الديموقراطية يقود إلى ممارسة النقد الذاتي، في سياق الإعداد للمنافسات القادمة ضمن التداول السلمي على السلطة. ولا يثير الموضوع أي جدل حول شرعية وجوده من عدمها، إلا في حال كان يتبنى أفكاراً مناوئة لقيم المجتمع المتوافق حولها. غير أن الطريقة التي عزل بها «إخوان» مصر وإصرار «الحرية والعدالة» على العودة إلى الحكم، لا تترك مجالاً لذلك التداول، إلا في حال قبول كافة الأطراف الانطلاق من ساعة الصفر. ولا يعني الجدل الدائر حول إقرار دستور وفاقي سوى الحاجة إلى تثبيت مرجعية الاحتكام إلى قانون أسمى يلتزم به الجميع. وقتذاك يصبح للتداول معنى. لكن المشكلة في دستور مصر كما تونس أن ديباجته وحيثياته ومضمونه لا يزال موضع جدل. مثل معادلة أسبقية البيضة أم الدجاجة. مع أن الدستور ليس «قانوناً» يفرضه المنتصر، وإنما وفاقاً يضعه الجميع، بخاصة لجهة الحسم في الهوية والثوابت وتوزيع السلط واستقلاليتها. وكما ليس وارداً أن يحتكر وضعه الحزبي أو التيار ذو النفوذ الواسع، لأنه قد يصبح أقلية في استحقاقات قادمة، فإنه لا يجوز إقصاء أي شريك في الإسهام في إقراره. فالسلطة التنفيذية جزء من مكونات باقي السلطات، وانفرادها في هكذا خيار ليس حلاً. في تونس يدور نقاش حول أسبقيات المرحلة، وفيما تطالب المعارضة برحيل الحكومة، ترد الأخيرة بأنها لن تذعن لذلك إلا بعد الانتهاء من إقرار الدستور. لكن ما هي الضمانات الأكيدة بأن دستوراً يوضع بهذه الطريقة سيرضي الجميع. أليس أجدى إبعاد الشأن الدستوري عن تأثير أي سلطة، بخاصة خلال الفترات الانتقالية. ولعل ما يعاب على الحركات الإسلامية التي استأثرت بالسلطة، وإن استندت في ذلك إلى صناديق الاقتراع، أنها مارستها بعقلية غير وفاقية. أو في أقل تقدير غلبت النزعة الدينية عن الإجراءات والقرارات السياسية. لم يكن مفاجئاً في غضون هذه التطورات طرح إشكاليات العلاقة بين ما هو ديني وما هو سياسي. فثمة أحزاب في البلدان الغربية ذات مرجعيات دينية. لكنها في الممارسات تفرق بين «المحافظين» دينياً والمسؤولين سياسياً. بل إن بعض الأحزاب التي انبرت لتغليب نزعات عنصرية وراديكالية كان مآلها إلغاء نتائج الانتخابات. وبين تغيير بنيات المجتمع وتوفير شروط التغيير الذي يطاول البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فرق شاسع. والذين تمردوا على الحركات الإسلامية لم يفعلوا ذلك لأنها زاغت عن مسلك ديني صرف، ولكن لأنها عجزت عن تنفيذ برامج إصلاحية تنعش الآمال وتعاود بناء الثقة المفقودة. في مصر عزل الإسلاميون من الحكم، وفي تونس تتواصل التظاهرات التي تستهدف إطاحة الحكومة، وفي المغرب تميل أحزاب وفعاليات في المعارضة إلى دعم بقاء الإسلاميين في الحكم. والسبب في ذلك لا يكمن في قطع الطريق على أي شكوى من توريد التجربة المصرية وانسحابها على أوضاع الإسلاميين في البلاد، ولكن في وضع مفاصل بين ما هو ديني وما هو سياسي. إن استمرت حكومة رئيس الوزراء عبد الإله بن كيران فإن ذلك مرده حيازة دعم غالبية نيابية، وإن توقفت في منتصف الطريق فإن العلة ستكون في انفراط عقد الغالبية. وهذه طريقة أسلم للخروج من نفق صراع السلطة.