ثماني عشرة جثة لمواطنين ليبيين ناهضوا نظام القذافي في ثمانينات القرن الماضي وقام النظام بتصفيتهم، عثر عليها مجمدة في ثلاجات بمستشفى طرابلس المركزي الكائن بشارع الزاوية قرب جامع مولاي محمد وعلى رغم صعوبة التعرف إلى الهيئات المطموسة بفعل التعذيب والزمن إلا أن تقنية الحمض النووي تنجح بين الحين والآخر في فرز هذه الجثث وتنسيبها لأصحابها، ثلاث جثث جديدة يتم التعرف إليها وتودعها طرابلس في جنازة مهيبة من قلب ميدان الشهداء هي للشهداء: محمد سعيد الطمزيني، وخليفة إبراهيم الحماصي، وجمال محمد المصراتي، الذين قضوا نحبهم شنقاً وقتلاً بالرصاص في أحداث اقتحام ثكنة باب العزيزية عام 1984 في محاولة جريئة للقضاء على القذافي وتغيير نظام الحكم، وقد تزعمت تلك المحاولة جبهة إنقاذ ليبيا التي يرأسها محمد المقريف رئيس المؤتمر الوطني الليبي الذي استقال استباقاً لما قد يسفر عنه قانون العزل السياسي من نتائج يكون هو أول ضحاياها، حيث سبق له أن اشتغل مع نظام القذافي في مناصب رسمية آخرها سفير ليبيا في الهند. الضحايا الثلاثة الذين تم الصلاة عليهم في ميدان الشهداء وتأبينهم رسمياً بحضور أسرهم وبحضور السيد نوري بوسهمين رئيس المؤتمر الحالي والسيد المرغني وزير العدل وغيرهما من المسؤولين، كان قد مضى على مكوثهم في سجون القذافي الباردة (ثلاجات الموتى) لمدة تجاوزت الثلاثين سنة، ووسط استغراب الجميع من هذا التصرف الغريب للديكتاتور إذ لم يسبقه في هذا النهج أي ديكتاتور آخر، استطلعنا الكاتب الليبي المعروف المختص في الشؤون العربية ناصر الدعيسي لنسأله عن سبب هذا التصرف فقال: قضية الجثث التي أثيرت في ليبيا أخيراً هي محاولة من نظام القذافي كي يمكن من خلال احتفاظه بها مواجهة أي تحقيقات قد تحرجه دولياً، وقد يفاوض من أجلها باعتباره ليس نظاماً قاتلاً بل إن الضحايا ماتوا نتيجة أمراض في سجونه. ولعل ما برز في قضية منصور الكيخيا الذي اختطف في مصر وعثر على جثته مدفونة في حديقة إحدى فيلات طرابلس بعد أن أرشد إليها رئيس الاستخبارات السجين عبدالله السنوسي، حيث احتفظ بجثة الكيخيا من أجل اعتباره توفي بسبب مرض وليس تصفية. وحول جثة الإمام الصدر ورفيقيه وهل من الممكن العثور عليها في ثلاجة أو مدفن سرّي لرغبة القذافي في استثمارها لمصلحته أجاب ناصر: مسألة الإمام الصدر مختلفة عن الضحايا الليبيين فجثة الإمام الصدر غيبت نهائياً لأنه قتل كما قال سكرتير القذافي أحمد رمضان أثناء التحقيق معه. والقذافي كان لديه اعتقاد بأن نظامه مستمر وقوي ويمكنه تخليق مواقف للمزايدة سياسياً وإعلامياً وشراء ذمم. والضغط بوسائل متعددة حينما يكتشف أمر قتل ضحاياه من معارضين وخصوم سياسيين. وحول تعدد مقابر القذافي السرية من مثلجة وبرية وبحرية وغيرها وسبب هذه الوفرة التي لم تشهدها أعتى الأنظمة الديكتاتورية في العالم حتى وهي في لهيب حربها الأهلية قال ناصر: تورط النظام في الاغتيالات وأصبحت جزءاً من أجندته، وعرف العالم أن في ليبيا كثيراً من ضحايا النظام، إما جثثاً في الصحراء أو في قبور مجهولة. نقول إن الميديا كشفت أوراق القذافي في المؤامرات والقتل والإرهاب ومن هنا عملية إخفاء الجثث هي مشروع جنوني لا يمكن لنظام ناضج سياسياً أن يقع فيه. وحول الحكمة من احتفاظ الديكتاتور القذافي ببعض جثث ضحاياه في الثلاجة لأكثر من ثلاثين سنة، وربما لزمن أطول. هل العملية عبارة عن نسيان؟ أم أنه ندم على قتلهم وسولت له نفسه أنه ربما يحييهم من جديد؟ أم أنه يرى أنهم مذنبون وكفرة ومأواهم جهنم فقام بتحويلهم إلى طوبة ثلج كي لا يعذبوا بالنار مباشرة ويتذكروا أنه خفف عليهم نار جهنم بتثليجهم؟ أم أن الأمر يتعلق بعلم التحنيط بالتبريد؟ أم بالشعوذة والسحر الأفريقي الذي للقذافي فيه باع طويل؟ سألت الكاتب بشير زعبية رئيس تحرير جريدة «المسار» الليبية فقال: هناك سلوكيات كثيرة غريبة من النظام لا نجد لها تفسيراً منطقياً، ولا تجد بسهولة المسببات التي تجعل أجهزة النظام تتخلص من جثث ضحاياها بطريقة تجعل من المستحيل العثور على أثر لها، بينما تبقي أخرى لأكثر من عقدين تقريباً محفوظة في مشرحة! هذا أمر أعتقد أنه في حاجة إلى دراسة من أخصائيي علم نفس واجتماع. وعن السؤال لماذا النظام يحتفظ ببعض الجثث في الثلاجة وأخرى مدفونة في التراب أجاب بشير: بصراحة لا أحد يعرف ما هي المعايير التي يبقي بموجبها النظام بعض جثث ضحاياه في جوف الأرض وأخرى في جوف المشرحة، وأخرى في «اللاّجوف». وحول جثث الإمام الصدر ورفيقيه هل من الممكن العثور عليها في إحدى المجمدات السرية، قال بشير: لا أعتقد ذلك، لأن وفوداً لبنانية زارت ليبيا مؤخراً للتعاطي مع قضية الصدر ومصيره ورفيقيه، ولم تتم الإشارة إلى هذا الاحتمال، لكن بعض الإشارات التي ظهرت تحدثت عن دفن في الأرض. * صحافي ليبي