نزوة أراد أن يوقف حركة الأشياء. نزل الى الشارع. رآه مزدحماً على غير ما تصوّره. الناس بدوا أكثر نزقاً مما اعتاد أن يراهم فيه. ربما لأنّ حرارة آب اللاهبة كانت تُخرج من الأرض ذبذبات تثير الاضطراب في النفس. تطلع، وهو لا يزال في مشواره من المنزل إلى الصيدلية لشراء الدواء منها، فرأى حركة اليمام البرّي غريبة. تنزل اليمامة، تلتقط الخبز من أمام بياع بطاقات الخليوي، ثمّ ترفرف كثيرا وتحطّ إلى جانب يمامتين أخريين، إلى أن صرن أربعاً وخمساً على حبل كهربائي أمام المحلّ، رغم الثرثرة الكثيرة وصياح الصبية والنساء وأصحاب السيارات العالقة وكأنهنّ مصبرات لأخذ الصورة سوية قبل الانصراف. أراد أن يختبر ولو لمرة أخيرة قدرته على إيقاف الأشياء. وفيما هو يجتاز الشارع الى حيث الصيدلية، توقف فجأة في وسط الشارع. بسط يديه كأنه ينادي جماعة أو أحداً. ازداد الحشريون قليلاً على الشرفات. السيارات صارت تتحاشاه، بزمور أو بدونه. أصحاب الدكاكين والمحلات المجاورة صاروا يتأملونه أكثر ويتساءلون. ظلت الحركة إياها والزعيق نفسه والروائح لم تخفّ، وأصوات الصبية والنساء ازدادت قليلاً، ولم تتوقف. ضحك طفيف فقط لأحد السائقين. تعبَ. كأنه يشدّ بيديه حلقات الحياة السرية. قفز مكانه ثم عاود عبور الشارع إلى الصيدلية، وانطفأ. الطّيف قالت في سرّها : «عليّ ألاّ أصير طيفاً». راجعت صوَرها، خزانة ماضيها القريب والبعيد. كان فيها الكثير من الألوان. تعجّبت من كثرة الألوان التي كادت أن تفيض إلى خارج حدود الكادرات. عادت ولفّت كيس الصّوَر بعناية بالغة. هو كنزُها الوحيد. جسر عبورها الخيالي إلى الأيام التي كانت فيها شخصاً. تأمّلت في المرآة الغضون القليلة التي بدأت تتسرّب تحت ثنيات الجلد، بلا استئذان. عيناها كانتا تبحثان عن ألق، عن التماعة، عن.. غرابة ما. لم تجد. فكّرت أنّ المشي، بحسب ما سمعت في بعض محطّات التلفزيون، خارج المنزل، على الشاطئ الرملي، على الرّصيف، في حال وجوده، داخل الحدائق العامة، إن كانت قريبة، يمكن أن يهدّئ البال، أو يجدّد الخلايا و... الصّور. قررت أن تمشي، بعد يوم قائظ . خرجت من البيت بالسرفيس. أقلّها إلى مسافة قريبة من الحمّام العسكري. كانت تنتعل حذاء من كاوتشوك. الساعة السادسة والنصف والشمس في سبيلها الى الغياب وهي ترسل أشعّتها الباهتة من دون حرارتها. أعجبها منظر الغروب وأعجبها كذلك أنّ أحداً من الناس لم ينادها باسمها. وأخافها ذلك ، في الآن نفسه. مشت بطيئة وحذرة في البداية. تذكّرت لثوانٍ بيتَها وعجقته ووقوفها الطويل فيه. ولم تلبث ان نفضتْ هذه الذكرى. رمتها بحركة من يدها ولم ينتبه أحدٌ اليها. مشت أكثر. ونسيت أكثر. وبدأت تتنشّق رائحة البحر ورائحة السابلة والبائعين مختلطة برائحة مياه آسنة. ولم ينادِها أحد. قالت في سرّها: «ربما نسيني هؤلاء جميعاً». خير. ابتسمت. للمرة الأولى تبتسم لذاتها. ولا تهتمّ إن رماها أحدهم بنظرة الاستغراب أو... الجنون. قالت: «أنا هنا. لن ألتفت إلى الوراء». ومشت. ومشت إلى أن تاهت عن المنزل، ولم تعدْ.