قصي صالح الدرويش، الناقد السوري الذي رحل قبل أيام عن عالمنا بعد أن غاب عن الأهل والرفاق طوال الشهور الفائتة إذ أقعده مرض لم يعرف كيف يتغلب عليه بسهولة، كان دائماً في حياته أكثر حضوراً من أن يتمكن الرفاق من فهم كيف غاب أخيراً. وهو كان حاضراً في نهمه إلى حياة لم تكن كريمة معه كما ينبغي، وفي صداقاته كما في مشاكساته، في ذكائه الشديد كما في أحكامه القاطعة. وبخاصة كان حاضراً في وفائه النادر وارتباطه الذي كاد يكون صوفياً بوطنه السوري الذي بالكاد كان يعرفه. فقصيّ كان من أبناء المنافي. دفعت به السياسة المتوارثة في عائلته بعيداً من الوطن منذ صباه فعاش ودرس وكانت بداياته في «وطنه» الثاني الجزائر، قبل أن ينتقل في عز شبابه إلى «وطنه» الثالث فرنسا موزعاً وقته بينها وبين مصر التي عشقها وكان فنانوها بمثابة اهل له، ولكن كذلك بينها وبين تونس التي كانت علاقته بها سياسية هذه المرة الى درجة ان دكتاتورها السابق منعه من دخولها. ومع هذا فإن اشهر كتابين لهذا الناقد السينمائي المرهف كانا سياسيين وعن تونس: «يحدث في تونس الآن» الذي كان أول من خبّر عن حتمية مجيء زين العابدين إلى الحكم في وقت بالكاد كان أحد سمع بهذا الاسم. والثاني حوار طويل أجراه قبل نحو عقدين مع راشد الغنوشي في وقت لم يكن في إمكان احد ان يراهن على ان هذا الإسلامي ذا الجذور الماركسية سيكون احد حكام تونس باسم الإسلام يوماً. أثبت الكتابان ان قصي صالح الدرويش ذو باع في السياسة وفي التبصّر لا يدانيه اي كاتب سياسي عربي آخر. ومع هذا كان هوى الكاتب الشاب، في مكان آخر تماماً: في السينما. وهكذا، الى جانب كتاباته السياسية راح يكتب في السينما نقداً عميقاً إصلاحياً انضم فيه إلى الحلقة الضيقة من نقّاد السينما الجادين الى جانب الراحل قبله غسان عبد الخالق وسمير فريد وعلي ابو شادي وكمال رمزي ونور الدين صايل وخميّس خياطي وآخرين، من الذين اعتُبروا دائماً «آرستقراطيي النقد السينمائي العربي» وكبار المشاكسين فيه. غير ان الدرويش لم يتخلّ في الوقت نفسه عن ولعه بالسياسة. ومن هنا، بعدما استنفد عمله لحساب الآخرين، كما كان يقول، أسّس بدعم جزائري مجلّتين باريسيتين إحداهما للسينما والثانية للسياسة - «سينما» و»الحدث» -، وهو واصل العمل فيهما محلقاً من حوله رفاقه في النقد والكتابة السياسية، حتى اليوم الذي توقف فيه الدعم الجزائري ما اضطره إلى الانكفاء ما شكّل له صدمة لا شك في أنها كانت في خلفية المرض الذي سيقضي عليه في النهاية. والأدهى أن ذلك الانكفاء تزامن مع رحيل شقيقه الذي كان صحافياً بدوره، ورحيل صديق عمره الناقد اللبناني غسان عبد الخالق في وقت واحد تقريباً. برحيل قصي صالح الدرويش يخسر النقد السينمائي كما الكتابة السينمائية العربيين مشاكساً كبيراً.