جرت العادة أن يتحمس الأميركيون لدعم قرار رئيسهم الدخول في حرب، وجرت العادة نفسها على أن تستمر الحماسة لفترة تطول أو تقصر وفق فداحة الكلفة البشرية والمادية لهذه الحرب، ولكن في معظم الحالات كانت الحماسة تفتر أو تنقلب إلى رفض يتحول إلى ضغط للانسحاب. لذلك، كان موقف الرأي العام الأميركي من عزم الرئيس أوباما شن ضربة عسكرية على سورية حافزاً لاندهاش شديد، في الولاياتالمتحدة وخارجها. كان واضحاً منذ أن تسربت أنباء الجريمة الكيماوية في الغوطة أن الرئيس أوباما سيحتاج إلى دعم قوي من الرأي العام حتى يتمكن من تنفيذ الإنذار الذي سبق أن وجهه إلى حكومة بشار الأسد قبل عام، حين قال إنه يعتبر استخدام السلاح الكيماوي خطاً أحمر، بمعنى أنه لن يتردد في التدخل عسكرياً ضد سورية، إذا ثبت لأميركا أن حكومة الأسد هي التي استخدمت السلاح الكيماوي. وقتها، أي في مرحلة مبكرة من مراحل الحرب الدائرة في سورية، كان أوباما لا يزال واقعاً تحت ضغوط من هيلاري كلينتون وزيرة خارجيته وبانيتا وزير دفاعه ودافيد بيتريوس رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية، تهدف إلى إقناعه بضرورة رفع مستوى تسليح المعارضة السورية، وكان أوباما رافضاً هذا التصعيد في النزاع، وإن اكتفى تحت الضغط بإصدار بيان صحافي أو تصريح يرضي به حلفاءه من العرب والأتراك. كان موقف الرئيس أوباما في ذلك الحين متسقاً إلى حد كبير مع اعتقاده الجازم، الذي كثيراً ما عبر عنه بقوله «لقد انتخبوني لأوقف الحرب لا لأشن حرباً». ظل هذا الاعتقاد راسخاً تجسده سياسة خفض الإنفاق الدفاعي وتسريع الانسحاب من أفغانستان والامتناع عن التدخل الصريح في ليبيا بعد نشوب الثورة فيها ضد القذافي وتكليف الرئيس هولاند بإصدار أوامره للجيش الفرنسي بالتدخل في مالي ضد قوات المتطرفين والانقلابيين وإعفاء القيادة المركزية الأميركية لأفريقيا من هذه المهمة. أتساءل مع كثيرين يتساءلون، وعن حق، عن الدافع وراء سعي الرئيس أوباما للحصول على موافقة من الكونغرس لقرار شن ضربة عسكرية لسورية على رغم أن السوابق نادرة، وعلى رغم إدراكه القوي أن هذا الكونغرس بالذات غير ودود وقد لا يتعاطف مع رغبة من أوباما مع أنه الكونغرس الأكثر مشاركة في صنع السياسة الداخلية في تاريخ النظام الأميركي. من ناحية أخرى، كان يعلم، ونحن أيضاً كنا نعلم وهو ما تأكد بالفعل خلال الأيام القليلة الماضية، أن الشعب الأميركي لن يؤيد إرسال جنود إلى الخارج في ظروف أزمة مالية واقتصادية، وفي ظروف حالة أقرب إلى الاكتئاب العام والنقص في الثقة بين الرأي العام والطبقة السياسية. لذلك، كان منطقياً أن يتوصل معلقون سياسيون إلى الظن بأن الرئيس ربما لجأ إلى الكونغرس لا ليحصل على دعمه ولكن ليحصل على رفضه ومعارضة للتدخل في سورية. هكذا يكون، وفق هذا الظن، قد أثبت للشعب في حال أيده الكونغرس، أنه لم ينفرد باتخاذ قرار الحرب وإنما شاركه في اتخاذه الكونغرس بمجلسيه وحزبيه ممثلاً لإرادة الأمة. أو يكون قد أثبت للشعب، في حال رفض الكونغرس تأييده، أنه حاول الوفاء بإنذاره الذي وجهه قبل عام إلى الأسد يحذره من عدم تجاوز الخط الأحمر، ولكن الكونغرس لم يسمح له، بالتالي لن يكون مسؤولاً عن أي ضرر أخلاقي يمس سمع أميركا في حال لم تنفذ إنذارها. إلا أن الأمور لم تتطور خلال الأيام الماضية على نحو يسمح لنا ولغيرنا بالحصول على إجابات مناسبة على هذا التساؤل، إذ يبدو أن الكونغرس قد شعر، وهذا أمر كان يجب توقعه بسبب طبيعة الصلة التي تربط النواب بالشعب، بأن الرأي العام الأميركي لا يريد هذه الحرب حتى وإن خضعت للتمويه بتسميتها بالضربة. بمعنى آخر، فإن دعم الكونغرس لأوباما كان يمكن أن يتسبب في كارثة لو أن أميركا أقدمت على عمل عسكري انتهى بأن أغرق قواتها المسلحة في مستنقع أشد بشاعة من مستنقع أفغانستان أو العراق. لذلك، عرضوا على الرئيس، أو سربوا إليه الاقتراح بأن يتوجه أولاً، وعلى غير العادة، إلى الشعب الأميركي عارضاً قضيته بنفسه وطالبا دعمه، وهم يعلمون سلفاً أن الشعب لن يوافق. الغريب أيضاً أن عدداً غير قليل من النواب كان قد عبر عن خشيته من أن تكون خسائر الضربة الأميركية لمعاقبة سورية وتدمير منشآت السلاح الكيماوي، أعلى كلفة من خسائر الحرب «الأهلية» الجارية حالياً في سورية، خصوصاً إذا كانت التقارير تجمع على أن مصلحة أميركا لم تمس حتى الآن بالضرر خلال هذه الحرب، ووفق آراء أخرى، فإنه لا توجد لأميركا مصلحة في استمرار هذه الحرب أو توقفها. غريب هذا الموقف لأنه إن دل على شيء فإنما يدل على أن الموضوع، التدخل أو عدمه، لا يؤثر في أمن إسرائيل، باعتبار أن أمن هذه الدولة هو البند الأول في الاهتمامات الدفاعية والأمنية للكونغرس. بكلمات أخرى، لو كان لإسرائيل مصلحة مباشرة في قرار أو آخر لاختلف رد فعل الكونغرس. تعددت التكهنات حول الطرف الذي كان له التأثير الأكبر خلال «أزمة القرار». رأي يقول إن موقف مجلس العموم البريطاني كان الأقوى تأثيراً في مسار القرار حين صوت ضد اشتراك بريطانيا، مع العلم أنه ما زال غير واضح تماماً السبب الذي جعل كارادون يهتم بعرض الموضوع على مجلس العموم. رأي آخر يرى أن تفاصيل اللقاءات الأولى لوزير الخارجية والقائد العام الأميركيين مع أعضاء مجلس الشيوخ، إضافة إلى المواقف المعلنة من أعضاء في مجلس النواب، كانت السبب الأقوى الذي دفع بالرئيس أوباما لأن يتوجه إلى قمة العشرين محبطاً ومرتبكاً وغير مستعد لبذل جهد كبير لحشد دعم العشرين دولة. أداء أوباما المتردد وهادئ النبرة والمنطق أوحى لأعضاء مجلس النواب بأن الرئيس قد يتراجع بعد عودته إلى واشنطن. رأي ثالث يعتقد أن الغلبة في الحقيقة كانت لروسيا التي التقطت الخيط من اتجاهات وميول الرأي العام العالمي والأميركي ومن تصرفات أوباما خلال القمة ووجدت الفرصة النموذجية لتحصل على ما كانت تحلم به منذ بداية الأزمة، وهو الاعتراف بدورها في الشرق الأوسط والبناء فوقه من أجل استعادة المكانة كقوة عظمى. لقد استثمرت روسيا أرصدة سياسية ومادية ضخمة لتفرض نفسها لاعباً أساسياً في الشأن الإسلامي والعربي بعد أن بات النظام الإقليمي العربي يهدد مباشرة أمنها وسلامتها، وكانت إحدى أدواتها الإلحاح على القبول بالحل السياسي وسيلة وحيدة لإصلاح الوضع السوري ومنع انفراط سورية أو وقوعها في أيدي التطرف والإرهاب. يبقى مثيراً للحيرة، ولا أقول اليأس أو الاكتئاب، الموقف العربي من الأزمة السورية منذ أيامها الأولى. مرة أخرى لعب العرب لعبتهم المفضلة عبر العقود وهي استدعاء الخارج لحمايتهم من بعضهم بعضاً أو تأمينهم ضد أطراف أخرى في الخارج. مرة أخرى يبدعون. كان الظن أنهم تجاوزوا هذه العادة الخبيثة التي وإن حققت أحياناً استقراراً وأمناً، فإنها خلفت دائماً كوارث ليس أقلها شأناً حال أمتنا هذه الأيام. رأينا سرعة وكفاءة نادرة في دعوة الآخرين ليتدخلوا في الأزمة السورية، وحتى عندما تأخر التدخل الأجنبي على رغم الإغراءات العربية، لم تحاول الأطراف العربية التدخل بنفسها مباشرة علها تجد أسلوباً «عربياً» مبتكراً يحقق هذا الحل السياسي ويبعد التدخل الأجنبي، الذي لن تنجو من شروره سورية وجيرانها وعرب كثيرون. يبدع العرب في ابتكار أساليب إغراء قادة الغرب ودفعهم للتدخل في شؤون المنطقة حرباً أو سلماً ويفشلون في ابتداع أساليب لإقناع أنفسهم وأقرانهم بتسوية خلافاتهم فيما بينهم. * كاتب مصري