عند الرجوع إلى خطاب الرئيس أوباما الأخير الذي ألقاه في البيت الأبيض حول نيته القيام بعمل عسكري ردعي ضد دمشق، نجد أنه كان مليئا بالغموض بين الجدية في توجيه الضربة وبين المراوغة السياسية. يقول في خطابه «لا يمكننا أن نغض الطرف عما حدث في دمشق، ولن نغضه». وأضاف أن مسألة الهجوم العسكري على سوريا يجب أن تناقش أولا في الكونغرس. وقال إنه يرى أن الهجوم سيقع حقيقة، مضيفا القول «أنا على استعداد لإصدار الأمر». وتابع أن الضربة «قد تقع غدا أو بعد أسبوع أو بعد شهر». وأضاف أوباما أن الولاياتالمتحدة مع ذلك ستكون أقوى إذا وافق الكونغرس على هذا القرار. تذكرت وأنا أسمع هذا الخطاب المليء بالغموض كلمة أحد الرؤساء العرب عندما قال أخشى أن أكون على وشك أن أفعل. لكن عند تمعني في هذا الخطاب اكثر أستطيع أن اجمل أهم أسباب التردد الأمريكي في أربعة أمور أساسية: أولا: العقيدة السياسية التي ينطلق منها الرئيس الأمريكي أوباما أو ما يمكن أن يطلق عليها (Obama Doctrine) والتي تؤكد على مبدأ إنهاء الحروب واعتماد التفاوض والتعاون بدلا من المواجهة والأحادية في الشؤون الدولية والتي مثلت انقلابا فكريا على سياسة سلفه جورج بوش الابن الذي يؤمن بالإفراط في تغليب نظرية القوة واستراتيجية «تغيير الأنظمة» في الشؤون الدولية والعمل الأمريكي المنفرد وعدم الاعتماد على الحلفاء أو المنظمات الدولية. ورأينا ذلك واضحا من خلال الانسحاب الأمريكي من العراق من دون أي خطة واضحة لاستعادة نظام ديمقراطي موالٍ ويعيد توازن القوى في مقابل إيران. وكذلك إعلان أوباما الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من أفغانستان مع نهاية 2014 وتحويل قيادة العمليات العسكرية إلى القوات الأمنية الأفغانية. أيضا انتهاج أسلوب الدبلوماسية في اتخاذ الأدوات السلمية فيما يختص بالملف النووي الإيراني. فكان هذا الأسلوب وهذه الاستراتيجية لا تختلف كثيرا فيما يختص بالملف السوري فمنذ بداية الثورة السورية انتهج الرئيس أوباما مبدأ سياسة التدخل الناعم من خلال الضغط على النظام السوري وتقديم دعم للمعارضة دون التورط العسكري المباشر في سوريا خاصة بعد الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان. فالملف السوري ملف معقد جدا تدخل فيه موازنات إقليمية ودولية. ثانيا: إن ارتكاب قوات النظام السوري المجرم هذه المجزرة المروعة وغير المسبوقة في الغوطة الشرقية بريف دمشق مستخدمة الغاز الكيماوي تحت أعين المراقبين الدوليين أربك إدارة أوباما ووضعها في معضلة حقيقية بين مبدأ عدم شن الحروب التي اتسمت به إدارة أوباما طيلة الفترة الماضية وبين تصاريح أوباما المتكررة حول خطوطه الحمر والتي من بينها استخدام الأسلحة الكيماوية. ففي أغسطس عام 2012 وضع أوباما خطا أحمر لنظام بشار الأسد وباقي اللاعبين، قال فيه إن «الخط الأحمر بالنسبة لنا هو نقل أو استخدام الأسلحة الكيماوية». وبالتالي إما أن يتدخل أوباما بقوة تتناسب مع تحذيره السابق أو أن يجازف بمصداقية خطوطه الحمراء المتعلقة بقضايا أخرى غير الكيماوي مثل البرنامج النووي الإيراني وأمن إسرائيل. ثالثا: ان ادارة اوباما لن تتدخل في سوريا إلا بدعم دولي. وبالتالي فإن رفض مجلس العموم البريطاني اقتراح رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بالمشاركة في توجيه ضربة عسكرية لسوريا الحليف الاساسي لامريكا زاد من هذا التردد خصوصا مع إعلان ألمانيا وإيطاليا عدم مشاركتهما في العمل العسكري المرتقب، وهو ما يهدد التحالف الغربي الذي تمت تهيئته منذ فترة لضرب سوريا بالتفكك، هذا فضلا عن الموقفين الروسي والصيني الداعمين لنظام الأسد منذ بداية الثورة. رابعا: ربط الرئيس أوباما القيام بعمل عسكري ردعي ضد دمشق بتفويض من الكونغرس الذي لن يجتمع قبل التاسع من سبتمبر رغم أن الدستور يتيح له شن الحرب بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة أو حتى كان يستطيع توجيه الضربة تحت عنوان (الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي) دون استشارة الكونجرس. فقلة من رؤساء أمريكا سعوا للحصول على موافقة الكونغرس لشن عمليات عسكرية في الخارج، وخصوصا إذا كان الأمر يتعلق بضربات محدودة، كما ينوي الرئيس أوباما بشأن سوريا. إلا أن الرأي العام في الولاياتالمتحدة كان عاملا حاسما في قرار شن الضربة العسكرية. فالرأي العام الأمريكي حسب ما أظهرته استطلاعات الرأي منقسم حول الضربة العسكرية فنسبة كبيرة من الأمريكيين ترفض مشاركة بلادهم في الضربة العسكرية المحتملة. وبالتالي لجوء أوباما إلى الكونجرس كان يهدف من خلاله الحصول على تأييد الشعب الأمريكي عبر ممثليه في الكونغرس قبل الإقدام على شن أي عملية عسكرية ضد الحكومة السورية حتى يتحاشى التبعات السياسية وتكرار سيناريو حرب العراق حيث اتخذ قرار الحرب رغم معارضة كبيرة من الرأي العام فتجلى في مظاهرات كبيرة كان أكبرها في العاصمة لندن حيث خرج نحو مليون متظاهر لمعارضة تلك الحرب. ايضا التأكيد للامريكيين المتعبين من الحروب ان «الخطة ستكون محدودة النطاق ولن تكرر حروب أمريكا الطويلة في العراق وأفغانستان» وستكون لصالح «الأمن القومي الأمريكي» بتخفيفها من إمكانية استخدام الأسلحة الكيميائية ضد الأمريكيين على أرضهم أو خارجها.