يقف لبنان أمام زحمة مبادرات تهدف الى التوافق على مخرج يؤمّن الحلول للقضايا العالقة وأولها تسهيل مهمة الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديد تمام سلام، ويتصدر المشهد على هذا الصعيد رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي طرح خريطة الطريق للخروج من الأزمات التي يترنح البلد تحت وطأتها وهو يحاول الآن تسويقها من خلال وفد كتلته النيابية المؤلف من النواب ياسين جابر وعلي بزي وميشال موسى والذي يواصل جولته على رؤساء الكتل ويلتقي اليوم رئيس كتلة «المستقبل» رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، ورئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون. ولعل المفاجأة في زحمة المبادرات هي في تريث رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في اطلاق مبادرته التي كانت مقررة اليوم رغم انه كان السبّاق في إعلان نيته اطلاقها منذ أشهر. ونقل أحد الوزراء عن ميقاتي قوله إنه قرر التريث في اطلاق مبادرته مع انها أصبحت جاهزة، وأن هناك جملة من الأسباب دفعته الى تأجيل الإعلان عنها أبرزها ان التوقيت الحالي لا يسمح بطرحها طالما ان الظروف الراهنة محلياً وخارجياً لا تشجعه على التشاور فيها نظراً الى أن التأزم لا يزال يسيطر على الوضع رغم التوافق الروسي-الأميركي على وضع السلاح الكيماوي في سورية تحت إشراف الأممالمتحدة. أضف الى ذلك ان ميقاتي كما يقول أحد الوزراء، عدل عن اطلاق مبادرته لئلا يذهب البعض الى تفسير موقفه هذا وكأنه يدخل في منافسة مباشرة مع رئيس المجلس، أو أنه يريد منها تعقيد الأمور أمام مهمة الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة. لذلك نأى ميقاتي بنفسه عن اطلاق مبادرته وارتأى ان يسحبها من التداول منعاً لأي اجتهاد أو تفسير قد يلجأ اليه البعض ويدرج تحركه في خانة وضع العصي في دواليب الرئيس المكلف، لكن موقفه هذا، وفق ما قال أحد الوزراء ل «الحياة»، لا يعني انه يعفي نفسه من مسؤولية البحث عن حلول للأزمة التي يتخبط فيها البلد. ولم يبق بعد قرار ميقاتي تأجيل اطلاق مبادرته في ميدان المبادرات سوى خريطة الطريق التي أعدّها رئيس المجلس، ويضطر وفده النيابي الى بذل جهد فوق العادة لإقناع بعض الكتل النيابية وأبرزها تلك المنتمية الى «قوى 14 آذار»، بأنها لا تنم عن رغبة واضعها في الالتفاف على صلاحيات السلطة التنفيذية ودورها في عملية تأليف الحكومة وإعداد البيان الوزاري، مع ان مصادر في الوفد سارعت في مستهل جولته على الرؤساء الثلاثة الى توضيح الهدف من تحركه والمتعلق باستمزاج الآراء حول شكل الحكومة سواء كانت جامعة أم وحدة وطنية، وهذا ما يجري التداول به بين الكتل النيابية ولم يعد سراً على أحد. وتضيف المصادر عينها أن الاتهامات التي توجه من حين لآخر الى الرئيس بري بأنه يريد تحويل لبنان الى نظام مجلسي تعود اليه الإمرة في كل شاردة وواردة، ما هي الا اتهامات سياسية لا ترتكز على أساس صحيح، وتسأل: «ما المشكلة في ظل انقضاء أكثر من خمسة أشهر على تكليف الرئيس سلام تشكيل الحكومة، في ان تخصص خمسة أيام للتشاور في خريطة الطريق التي طرحها رئيس المجلس لعلنا نتوصل الى تفاهم من شأنه ان يساهم في التغلب على العراقيل التي تؤخر ولادة الحكومة لينصرف بعدها رئيسا الجمهورية والحكومة المكلف الى تشكيلها؟». وتعترف المصادر نفسها بأن لا مشكلة في التزام الجميع ب «إعلان بعبدا»، وتقول: «إن ما تضمنته خريطة الطريق من بنود تلتقي حرفياً مع هذا الإعلان، ولا صحة لما يتردد من حين لآخر من اتهامات بأننا نريد التوصل الى إعلان جديد مع إقرارنا بأن ما أجمع عليه المتحاورون في القصر الجمهوري لا يشمل الاستراتيجية الدفاعية للبنان التي ما زالت نقطة اختلاف بين أطراف الحوار». ليس بالمبادرات وحدها وفي المقابل، تقول مصادر قيادية في 14 آذار ان مشكلة استمرار الأزمة في لبنان وتعذر الوصول الى تفاهم يؤمن خروجنا منها، لا تكمن في غياب المبادرات، خصوصاً أن زعيم «تيار المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري كان اطلق مبادرة قوبلت برفض من معظم المكونات التي تتألف منها «قوى 8 آذار»، وإنما في عدم نضوج الظروف السياسية وتحديداً الإقليمية للانتقال بلبنان الى بر الأمان، اضافة الى ان هناك من انقلب على «اعلان بعبدا» واعتبره كما قال رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النيابية محمد رعد إنه ولد ميتاً، وهذا صحيح على الأقل من وجهة نظره عندما قرر «حزب الله» الاشتراك في القتال الى جانب النظام السوري ضد المعارضة. وتؤكد ان الاختلاف يتمحور حول الإطار العام للحكومة قبل الدخول في البحث في شكلها، وتعزو السبب الى انقلاب «حزب الله» على «اعلان بعبدا» في مقابل تأكيد الوفد النيابي المكلف من بري أن خريطة الطريق الصادرة عن الأخير هي في صلب هذا الإعلان وتلتقي معه في أكثر من نقطة. وتعتقد هذه المصادر أنها كانت تتمنى لو أن الوفد النيابي بادر الى استمزاج رأي «حزب الله» في اعلان بعبدا قبل ان يجول على الرؤساء والقيادات الأخرى، وتسأل عن موقف حركة «أمل» من اعتبار حليفه الأول ان الاعلان المذكور ولد ميتاً؟ كما تسأل: «هل الظروف الإقليمية تبدلت وأصبحت مواتية لتشكيل الحكومة؟ وما هو موقف «حزب الله» من تشكيل حكومة جامعة لا يعطى فيها الثلث الضامن لأي طرف؟ ثم ان هناك من يعتقد في داخل 8 آذار بأن بقاء الوضع على حاله من دون تشكيل حكومة جديدة مريح». وترى المصادر ان تعذر الاتفاق على خريطة الطريق سيدفع حتماً الى التفاهم على تنظيم الاختلاف، وتسأل: «هل يعني هذا اعادة الاعتبار الى حكومة تصريف الأعمال وصولاً الى تعويمها؟ وإلا كيف يمكن تشكيل حكومة جامعة من دون توافر الحد الأدنى من التفاهمات لأن في غيابها سينتقل الخلاف الى داخل مجلس الوزراء؟». لكن هذه المصادر ترفض التعليق على استعداد بري لإدخال بعض التعديلات على «خريطة الطريق» ولو اضطر الأمر الى إلحاقها بملحق لتوضيح بعض المسائل الإشكالية، وتعتبر انها تتضمن بنوداً تشكل خرقاً للدستور باعتبارها من صلاحيات السلطة التنفيذية ومنها على سبيل المثال الاقتراح الوارد فيها بتطويع 5000 عسكري لمصلحة الجيش اللبناني. وفي هذا السياق،تخشى المصادر من ان تتحول هيئة الحوار انطلاقاً من «خريطة الطريق» الى سلطة عليا تذوب فيها سلطة مجلس الوزراء ويعطى لها قرار الفصل في جميع الأمور العالقة، فيما تسأل مصادر في 8 آذار عن الدوافع للحملة على مبادرة بري وتقول: «أين كانت هذه المواقف عندما اجتمع مؤتمر الحوار الوطني في الدوحة في قطر واتفق فيه على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وعلى اسم رئيس الحكومة الذي أدى الى إعادة تكليف السنيورة تشكيل الحكومة؟». وترد مصادر في 14 آذار على هذه المقارنة بين ما كان قائماً في الدوحة وما يحصل اليوم، وتقول ان «قطر استضافت مؤتمر الحوار بعدما توافر له الغطاء الدولي والإقليمي الذي أتاح الوصول الى تسوية، بينما نفتقد هذا الغطاء بسبب الانقسام الحاد من الحرب الدائرة في سورية». لذلك، وبانتظار ان تتبلور المواقف من مبادرة بري، هناك من يعتقد أن الأزمة الراهنة في لبنان ومع مرور الوقت ستتجاوز مسألة تأليف الحكومة وشكلها وبيانها الوزاري الى المخاوف من احتمال حصول فراغ في سدة الرئاسة الأولى بسبب تعذر انتخاب رئيس جديد خلفاً للرئيس سليمان الذي تنتهي ولايته في أيار (مايو) المقبل. وتؤكد مصادر مواكبة للاختلاف حول المبادرات ومضمونها أن المخاوف من الفراغ بدأت تقلق منذ الآن المجتمع الدولي وهي تتقاطع مع مخاوف معظم الأطراف اللبنانيين وأولهم قوى 14 آذار التي تتعامل مع المبادرات على أنها تهدف الى ملء الفراغ في الوقت الضائع ليس لأنها كما تقول مصادرها ترفض الوصول الى تسوية، وإنما لأن الظروف المحيطة بلبنان ما زالت غير مشجعة في ظل تصاعد وتيرة التأزم في سورية، وبالتالي بدأت تتحسب من أن يكون لخريطة الطريق دور في إدارة ملف رئاسة الجمهورية بما فيه احتمال تعذر انتخاب الرئيس الجديد على أن يبدأ التأسيس له منذ اليوم على رغم ان جهات أوروبية تعتبر ان التمديد لسليمان يبقى أقل الأضرار وبالتالي الحل الوحيد لعدم الوقوع في الفراغ لغياب التفاهم على من سيخلفه.