لم يكتف شكسبير، طبعاً، بالتأريخ لملوك الإنكليز في العدد الأكبر من مسرحياته المصنفة «مسرحيات تاريخية»، بل نراه يغوص أيضاً في التاريخ الروماني من خلال أربع مسرحيات على الأقل تعتبر من أشهر أعماله. أما التاريخ الأقدم من تاريخ روما وإمبراطوريتها وأباطرتها، فقد دنا شكسبير منه أيضاً، وإنْ عبْر عدد أقل من الأعمال... ولعل الأشهر في هذا الإطار، مسرحيته عن حروب طروادة «ترويلوس وكريسيدا»، التي كتبها شاعر الإنكليز الأكبر بين العامين 1598 و1603، مضيفاً إليها ومعدِّلاً فيها مرة بعد مرة، كما لو أنه لم يكن واثقاً منها تماماً. وإذا كانت هذه المسرحية تغيب عادة عن الأذهان لكونها -إلى حد ما- على حدة بين أعمال شكسبير التاريخية، فإن الباحث البولندي يان كوت، الذي وضع أفضل كتاب صدر عن شكبير في القرن العشرين (وهو طبعاً «شكسبير معاصرنا»)، تعمّد أن يعيد الاعتبار إلى هذه المسرحية من الباب العريض... إذ ها هو منذ الصفحات الأولى لكتابه يحدّثنا، بين أمور أخرى تتعلق بالمسرحية، عن شخصية كريسيدا على النحو الآتي: «كريسيدا هي من أشد شخصيات شكسبير إذهالاً، ولعلها مذهلة بقدر ما يبدو لنا هاملت مذهلاً. وهي كهاملت ذات أوجه متعددة... لا يمكن تحديدها أو تعريفها بمعادلة واحدة. ربما كانت كريسيدا في الثامنة أو العاشرة أو حتى في الثانية عشرة حين بدأت الحرب (حرب طروادة)، وربما كان هذا هو السبب في أن الحرب تبدو لها أمراً عادياً، سوياً، حتى لتكاد لا تراها ولا تتحدث عنها أبداً. لم تُمَسّ كريسيدا حتى الآن، ولكنها تعرف كل شيء عن الحب، وعن ممارسة الحب مع الرجال... أو أنها –على الأقل– تعتقد أنها تعرف كل شيء. وهي في جوّانيتها حرة واعية وجريئة. وهي تنتمي إلى عصر النهضة، غير بأنها أيضاً تبدو من نوع نساء ستندال، أختاً توأماً للإمييل، كما أنها مراهقة من مراهقات القرن العشرين. تسخر من كل شيء، أو أنها في طريقها إلى أن تسخر من كل شيء. لقد رأت أموراً كثيرة... رأت كل شيء تقريباً. إنها تشعر بالمرارة وتشاهد المفارقات. لاهبة العاطفة، لكنها تخشى عاطفتها وتخجل من الاعتراف بها. إنها -أكثر من ذلك- تخاف المشاعر، ولا تثق بنفسها. هي اذاً معاصرتنا، بسبب ما يلم بها من انعدام ثقة وتحفُّظ وحاجة إلى تحليل الذات باستمرار... وبسبب قدرتها على الدفاع عن نفسها بسخرية». اذاً كريسيدا الشكسبيرية هذه هي، في رأي يان كوت، معاصرة لنا بقدر ما يبدو هاملت معاصراً لنا... بل هي في داخلنا بقدر ما يحتل هاملت جوّانيتنا. فمن هي كريسيدا التي لم تنل، مع هذا، الشهرة التي نالها هاملت على مر العصور؟ وما موقعها من الحروب الطروادية؟ إنها باختصار صاحبة حكاية يموضعها شكسبير داخل الإطار الواسع للحروب الطروادية، وذلك في اقتباس مباشر من قصيدة للشاعر بنوا دي سانت مور، كتبت في العام 1165. ولقد كتب هذا الشعر الجوّال (التروبادور) قصيدته، من دون أن يذكر هوميروس بين مراجعه، ليصف فيها أسطورة طروادة، وازدهارها وانحدارها... ومن خلال ذلك حكاية كريسيدا وترويلوس. وتبدأ المسرحية الشكسبيرية، عند أواسط تلك الأحداث، خلال فترة من الهدنة اجتمع خلالها جنرالات اليونان المحاصرين مدينة طروادة، ليتناقشوا بصدد استراتيجية ما بعد الهدنة. وهنا يبدو آغاممنون منزعجاً من الفرقة داخل الصفوف اليونانية، وهي فرقة ناتجة في رأيه عن غياب الأخلاق لدى الزعماء. فآشيل متكبر وكسول وأجاكس سريع الغضب لجوج يصغي كثيراً لنصائح خادمه ثرسيتيس. أما هكتور ابن ملك طروادة فإنه ينصرف لرمي قفاز التحدي في وجه أي يوناني يجرؤ على مجابهته منفرداً. وذات مرة إذ يبدو أن التحدي موجه إلى آشيل مباشرة، تقع القرعة لمنازلة هكتور على أجاكس الذي يشعر بأنه إن خاض هو التحدي، ستكون في ذلك إهانة إلى منافسه آشيل. ويقرر هذا الأخير ألا يشهد المبارزة في اليوم التالي. وفي أثناء ذلك يكون هكتور قد أعلن رفضه عرض الهدنة الذي قدمه اليونانيون. ومن ناحية ثانية سنكتشف هنا أن الحب قد اشتعل بين ترويلوس، الابن الثاني لبريام ملك طروادة، أي الشقيق الأصغر لهكتور وباريس، وبين كريسيدا ابنة الكاهن الطروادي الذي كان قد انضم إلى اليونانيين. وكان عم كريسيدا بانداروس قد رتب لقاء بين العاشقين. ويقسم ترويلوس وكريسيدا على الوفاء وعلى الحب إلى الأبد... ومع هذا فإن كالخاس، والد كريسيدا، كان قد حصل على أسير طروادي ها هو الآن يبادله مع ابنته التي كانت محاصرة داخل طروادة... وهكذا تقاد كريسيدا الى داخل معسكر اليونان في وقت كان فيه القتال بين هكتور وأجاكس قد انتهى بفعل رفض هكتور إلحاق أي اذى بأجاكس. وهنا يحتفل الطرواديون واليونان معاً... ولكن في لحظة ما، يقال لترويلوس إن المدعو ديوميدس مغرم بكريسيدا... فلا يكون من تريلوس إلا أن يلجأ إلى موقع خفي يمكنه من مراقبة الأحداث فيخيل إليه حقاً أن كريسيدا تبادل عاشقها الجديد حباً بحب. وهكذا في اليوم التالي، خلال مناوشات قتالية تحدث بين الفريقين يسعى ترويلوس للعثور على غريمه لقتله، لكنه لا يوفق في ذلك، فيما تستقر الصراعات وقد أضحت الآن فردية بعض الشيء لتنتهي بمجموعة من الميتات، حيث يموت هكتور على يد آشيل وما إلى ذلك. من الواضح لمن تابع حكايات وتفاصيل الحروب الطروادية... وكذلك لمن قرأ كل الأدب الذي كتب عن اختلاط الحب بالحرب خلال تلك الحقبة المدهشة من التاريخ القديم، أن شكسبير لم يلتزم أبداً بالحقائق التاريخية، بل إنه –وكما دأبه دائماً– استخدم التاريخ وشخصياته وأحداثه كمادة اولى يصنع منها موضوعه... أما موضوع شكسبير نفسه، فإنه اعتبر دائماً معقداً وعصيّاً على التفسير، خصوصاً أن الأساس فيه، نظرياً، وهو حكاية الغرام بين ترويلوس وكريسيدا، لا يعود هو المحور، فالعاشقان لم يمضيا معاً سوى ليلة واحدة... أما الباقي، فتشعّبات تتعلق بالكثير من الشخصيات الأخرى، ومع هذا تمكن صاحب «هاملت» و «عطيل» من أن يحمّل شخصية كريسيدا عدداً كبيراً من الإشكالات. وكان هذا التحميل بالطبع هو ما حدا بيان كوت إلى أن يقيم التقابل بل التشابه بين كريسيدا وهاملت، لكنه لم يكن الوحيد الذي فسّر الأمور على هذا النحو، إذ نعرف أن كل دارسي شكسبير اعتبروا كريسيدا شخصية غامضة مثيرة للأسئلة. بيد أنها في مسرحية شكسبير غيرها في «حكاية طروادة»، حيث كانت مجرد صبية فاتنة، وغيرها حتى في القصيدة التي كتبها عنها تشوسر، واصفاً إياها بالأرملة الحسناء... إنها هنا لدى شكسبير عذراء ذكية واعية تدرك تماماً سر الدور الذي يلعبه عمها مثلاً عمها في لعبة التبادل ولا تقف ضده. لكنها في المقابل تبدو لنا خلال لقائها الوحيد مع حبيبها عاجزة عن فهم خطابه الموله والمبهم، ما جعل كثراً يعتبرونها شريكة في نوع من «حوار طرشان» عرف شكسبير كيف يرسمه مسرحياً بكل قوة. ومع هذا، يظل غامضاً بالنسبة إلينا كما بالنسبة إلى قراء المسرحية والباحثين، السبب الحقيقي الكامن وراء إذعان كريسيدا لكل ما يحدث معها: هل هذا نابع من طابعها الخاص... أم أن شكسبير أراد أن يقول إن تلك هي، بصورة عامة، طبيعة المرأة، ما من شأنه أن يعزّز ما اشتهر به شكسبير من موقف معاد للمرأة عموماً؟ فإذا كان هذا صحيحاً لا بد من السؤال: كيف غفلت الحركات النسائية في القرن العشرين، والتي وصلت ذات حقبة الى مهاجمة هيغل على عدائه المزعوم للمرأة، كيف غفلت عن شكسبير ولا سيما عن تصويره كريسيدا؟ مهماً يكن من أمر، لا بد من أن هذا سيحدث يوماً، وفي انتظار حدوثه، لا بد من الإشارة الى المهارة التقنية الاستثنائية التي «أدار» شكسبير (1564-1616) بها هذا العمل الذي يكاد يبدو فريداً في مساره الكتابي، لا سيما من ناحية التعامل مع عدد كبير من شخصيات يبدو لكل واحدة منها أهميتها في عمل، يوحي عنوانه بأنه يكاد يقتصر على ترويلوس وكريسيدا... وذلك على عكس ما كان يفعل في بعض أروع مسرحياته، حيث يكون التركيز محصوراً على قبضة من شخصيات تتمحور أساساً حول شخصية أو اثنتين، كما في «يوليوس قيصر» و «الملك لير» و «ماكبث» و «العاصفة» و «تاجر البندقية» وغيرها. [email protected]