جرى العرف أن يوجه المجلس البابوي للحوار بين الأديان في نهاية شهر رمضان من كل عام رسالة الى العالم الإسلامي مهنئاً بعيد الفطر السعيد، ومتمنياً لمسلمي العالم اجمع أفضل الأمنيات. غير أن الرسائل الثلاث التي صدرت عن حاضرة الفاتيكان هذا العام وفي الأيام الأخيرة من الشهر الفضيل ربما حملت مسحة مغايرة لنوعيتها وكميتها، لا سيما بعد أن عمّق البابا فرنسيس الأول رسالته، فبجانب التهنئة كانت هناك دعوة للنظر في موضوع معين. تجيء رسالة الحبر الروماني امتداداً لرؤاه التصالحية مع الجميع في الداخل والخارج، بين المسيحيين بعضهم بعضاً، وبين المسيحيين والمسلمين بنوع خاص، وجميع أتباع الأديان في شكل عام، لهذا السبب قرر البابا في السنة الأولى من حبريته التعبير عن مشاعره بالتوقيع شخصياً على هذه الرسالة الموجهة إلى «الأصدقاء الأعزاء» على حد وصفه، ومن دون الاكتفاء برسالة المجلس البابوي لحوار الأديان، وذلك كتعبير عن تقديره ومودته لجميع مسلمي العالم، وبصورة خاصة للقادة الدينيين بينهم. يلفت البابا بداية إلى أمر هام جداً وهو اختياره لاسم فرنسيس، والمعروف انه اتخذ هذا الاسم تيمناً وتبركاً بالقديس فرنسيس الاسيزي، هذا المتصوف الايطالي من أعمال مدينة اسيزي، والذي تُقرأ حياته على مستويين: المستوى الأول، الروحي، حيث أحب الله وكل إنسان في خلق الله إلى حد انه دُعي ب «أخي الجميع»، وقد أحب بالفعل وساعد وخدم المحتاجين والمرضى والفقراء واهتم للخليقة كلها. أما المستوى الثاني فهو الإنسان الحواري التصالحي والتسامحي، فالاسيزي رفض الحروب الصليبية وجاء إلى دمياط للقاء سلطان المسلمين وأقام معه حواراً طويلاً وقد أكرم السلطان وفادته وأتباعه من بعده، فكان بمثابة أول من أقام حواراً بين الاديان قبل ثمانية قرون. ماذا عن القضية التي اختارها البابا فرنسيس في رسالته للعالم الإسلامي هذا العام؟ اغلب الظن أن العولمة المتوحشة ورأسماليتها المستعرة قد أذابت الأبعاد الاجتماعية والتربوية، لا سيما العائلية، وهنا نراه يختار موضوعاً يهم الجميع، مسلمين ومسيحيين على حد سواء ألا وهو: «تعزيز الاحترام المتبادل من خلال التربية»... ما هو مفهوم تلك التربية عند أسقف روما؟ وفق كلمات الرسالة، هو الطريقة التي نفهم بها احدنا الآخر والتي أساسها الاحترام المتبادل، والاحترام عند البابا يعني المودة لأناس لهم في مشاعرنا احترام وتقدير. والمتبادل يعني أن الموقف ليس موقفاً من جهة واحدة، بل هو موقف يشترك فيه الجانبان. ربما كانت لحديث «الاحترام المتبادل» علاقة بالتطورات السريعة التي يشهدها العالم العربي والإسلامي، وثورات وفورات «الربيع العربي»، بانتصاراته وانكساراته، والخوف من أن تؤثر التبدلات في الطباع، والتغيرات في الأوضاع إلى اختزال هذه المشاعر الإنسانية المتبادلة. البابا فرنسيس اليسوعي الأصل، واليسوعيون أصحاب رؤى لاهوتية وإنسانية معمقة، يجذر الفكرة ويتوسع في شرحها، فنحن مدعوون قبل كل شيء إلى احترام حياة الآخر وسلامته الجسدية ثم كرامته كإنسان والحقوق الناجمة عن هذه الكرامة، وسمعته وكل ما يملك، وهويته الإثنية والثقافية، وأفكاره وخياراته السياسية. لذلك نحن مدعوون إلى التفكير والتكلم والكتابة بطريقة تحترم الآخر، وليس فقط إذا كان حاضراً، بل دائماً وفي كل مكان، فنترك جانباً كل نقد لا يليق وكل تشهير. البابا الكاثوليكي ينبه الجميع شرقاً وغرباً إلى أن قضية ترسيخ مثل هذه المفاهيم البناءة والخلاقة على حد سواء تقع على العائلات والمدارس وعلى مدرّسي التربية الدينية، وفي الوقت ذاته لا يوفر الإشارة إلى وسائل الإعلام بكل أشكالها والدور الذي تلعبه من اجل تحقيق هذا الهدف. يتساءل القارئ لرسالة البابا: هل من تخصيص ما في سياق هذه الرؤية للمؤمنين، لا سيما بين المسيحيين والمسلمين؟ الامر كذلك بالفعل، إذ يحض الجميع على احترام ديانة الآخر وتعاليمها ورموزها وقيمها، ويرى انه يتوجب كذلك احترام خاص للقادة الدينيين ولأماكن العبادة ، ويأسف كثيراً لما هو مناقض لذلك: «كم هي مؤلمة الاعتداءات التي يتعرضون لها»، يقول البابا فرنسيس من دون تخصيص لقادة دين معين أو أماكن عبادة دين ما. ويذهب إلى انه إذا أبدينا احترامنا لديانة الآخر أو قدمنا له تمنياتنا الطيبة في مناسبة الاحتفالات الدينية، فإننا نشاركه فرحه وسروره بالعيد من دون التطرق إلى مضمون قناعاته الدينية. نصيحة البابا المتضمنة التهنئة بعيد الفطر السعيد هي انه يتحتم علينا أن نربي الأجيال الصاعدة على التفكير والتكلم باحترام عن الديانات الأخرى وأتباعها، والابتعاد عن كل استخفاف أو إساءة الى عقائدهم وممارساتهم، وبهذه الطريقة يمكن صداقة حقيقية ودائمة أن تنمو. لم تكن كلمات البابا فرنسيس جديدة على المتابعين لأفكاره وخطبه منذ ارتقائه السدّة البطرسية، فغداة استقباله أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي في 22 آذار (مارس) المنصرم قال: «لا يمكن إقامة علاقات مع الله إذا ما تجاهلنا غيرنا، وبالتالي من الأهمية بمكان تكثيف الحوار بين مختلف الديانات، وأنا أفكر بصورة خاصة في الحوار مع الإسلام». ماذا تعني هذه الرسالة تحديداً؟ الجواب نجده عند رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان الكاردينال الفرنسي الأصل جان لوي توران الذي أكد في حوار مع إذاعة الفاتيكان أن الحبر الأعظم شاء من خلال هذه المبادرة أن يعرب عن احترامه الكبير تجاه أتباع الدين الإسلامي. ولعل قليلين يعرفون أن البابا فرنسيس وعندما كان رئيس أساقفة على بوينس ايرس في الأرجنتين أرسل احد الكهنة لكي يتعلم اللغة العربية في القاهرة ليكون لديه شخص مطلع بعمق على الحوار مع الإسلام بنوع خاص. ومع وصوله إلى كرسي البابوية، أراد في أول سنة من حبريته أن يسلط الضوء على أهمية الحوار الديني مع الإسلام الذي يحتل مرتبة أولية بالنسبة اليه. حوار الكاردينال توران إذا اعتبرناه الرسالة الرمضانية الثانية يفتح أعيننا على إشكاليتين مهمتين للغاية، الأولى يقر فيها بأن الجهود التي بذلت على صعيد الحوار الديني حلال السنوات القليلة الماضية كانت حثيثة لكنها وللأسف لم تحقق النتائج المرجوة. لماذا؟ لأنه لم يترجم ما تم الاتفاق حوله إلى قوانين أو إجراءات إدارية، ومن هذا المنطلق، لا بد من أن تكثف الجهود ليتمكن المسيحيون والمسلمون من التعرف إلى بعضهم بعضاً بصورة أعمق وليروا أنهم يبحثون سوية عن الله. القضية الثانية التي يشير إليها الكاردينال توران تتعلق بالأوربيين من بني جلدته، وكيف أنهم لا يميزون غالباً بين الإسلام كدين والإسلام السياسي، مع أن الجميع يعي أن التطرف والأصولية هما عدو مشترك. ولهذا، فإن توصيات رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان تذهب إلى ضرورة أن تبذل جهود حثيثة على صعيد الفكر والثقافة، وهذا أمر لا يتم إن لم يعِ القادة الدينيون مدى خطورة الوضع وإن لم تحركهم الرغبة المشتركة في تحسين الأمور. وهذه المسيرة تمر بالضرورة عبر المدرسة والجامعة ومن خلال الثقة المتبادلة والصداقة. الرسالة الثالثة والأخيرة التي نحن في صددها كانت بيان أمين سر المجلس البابوي للحوار بين الأديان الأب ميغيل انخيل كيكسوت والذي أشار فيه إلى أن المجلس الحبري المذكور يواصل البحث عن الوسائل البسيطة والملموسة من اجل تشجيع الكنائس المحلية على نسج علاقات الصداقة مع أتباع الديانات غير المسيحية، ما يتطلب المشاركة في اللحظات والمناسبات الهامة بالنسبة الى الآخرين، لا سيما الاحتفالات والمناسبات الدينية. منذ متى يقوم المجلس البابوي بإرسال الرسائل إلى العالم الإسلامي في عيد الفطر؟ تاريخياً، كانت أول رسالة وجهت إلى المسلمين في أنحاء العالم في عام 1967، ومنذ عام 1973 كانت الرسائل تحمل توقيع رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان، وقد حصل استثناء في العام 1991، خلال حرب الخليج عندما قرر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني أن يرسل هذه الرسالة بنفسه، ولهذا تعد رسالة البابا فرنسيس هذه الثانية من نوعها في تاريخ تلك المسيرة التصالحية والتي يكمن هدفها الرئيس في مشاركة المسلمين فرحهم في وقت يحتفلون فيه بعيد الفطر، كما أن الرسالة في شكل عام تشكل مناسبة لإقامة علاقات حيث لا وجود لها ولترسيخ هذه العلاقات حيث هي موجودة أصلاً. ولعله يتوجب علينا التذكير بأن رسالة عيد الفطر العام الماضي كانت تتمحور حول «تربية الشبان المسيحيين والمسلمين على العدالة والسلام»، وهي مسألة تكتسب أهمية كبرى في عالمنا المعاصر، وحال وضع رسالة هذا العام بجوارها نصبح امام منظومة رفيعة من الأخلاق والقيم الإنسانية، تجمع بين العدالة والسلام والبحث عنهما والاحترام المتبادل كأداة لتعميقها. فهل من مردود ايجابي لتلك الرسائل؟ في واقع الأمر عادة ما تتلقى البعثات البابوية في الدول الإسلامية ردود فعل ايجابية من طرف المسلمين، كما يرسل بعضهم لا سيما من النخب الفكرية والدينية رسائل تعرض فيها وجهة نظر الإسلام في المواضيع التي تتضمنها رسائل المجلس البابوي للحوار بين الأديان. وفي كل الأحوال، فإن هذه الرسائل تساهم في بناء جو من التفاهم والصداقة بين الكاثوليك والمسلمين بنوع خاص، وتعظم من نقاط الوفاق وتقلص من فرص الافتراق وحجمه.