صدرت عن «منشورات كارم الشريف» في تونس أخيراً ترجمة عربية لكتاب «تاريخ العرب وحياة محمد»، للمؤرخ الفرنسي الكونت دو بولانفيلييه، وقام بترجمته وتحقيقه والتعليق عليه الدكتور مصطفى التواتي. جاءت الطبعة العربية في 268 صفحة، ويعد صدورها حدثاً مهماً، لأسباب عدة، أولها أنه يترجم للمرة الأولى من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية بعد مرور أكثر من ثلاثمئة سنة على نشره. وبحسب المفكر المصري الراحل عبدالرحمن بدوي، فهو يعد «أول كتاب أوروبي يتعاطف مع النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ومبادئ الإسلام»، وثانيها أنه كُتب بإنصاف، معيداً للحضارة العربية الإسلامية ألقها وإشعاعها ومثبتاً ريادتها للحضارة الإنسانية. وثالثها أنه يمثل رداً حضارياً من كاتب غربي على ادعاءات المفكرين الغربيين، نُشر في فترة تنامى فيها التهجم على النبي محمد وعلى الإسلام في الغرب ومن شأنه أن يكون باعثاً على أن يعاد النظر في رؤيتهم للحضارة العربية الإسلامية بعيداً من التشويه والافتراء والتعصب وتزوير التاريخ. ويقول المترجم «... بعد تصفح هذا الكتاب أدركتُ مدى وجاهة الرغبة التي عبر عنها عبدالرحمن بدوي بأن يرى أحد المثقفين العرب يقوم بترجمته، كما أدركتُ الأسباب التي جعلت الكتاب ومؤلفه يظلان مغمورين في الغرب طيلة هذه القرون رغم شهرة أعمال أخرى تافهة لا يتميز أصحابها إلا بالبراعة في شتم العرب والإسلام وتحريف حقائق التاريخ، وما تضمنه هذا الكتاب من مواقف إيجابية من العرب والإسلام وشخص الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، جعلت المتعصبين من رجال الدين الغربيين والكتاب المستشرقين يهمشونه، بل وذهب البعض إلى حد تحريف فقرات منه والدس عليه عند نشره. والأجواء التي ألف فيها دو بولانفيلييه هذا الكتاب، لا تختلف جوهرياً عن الأجواء السائدة اليوم في الغرب ضد الإسلام والمسلمين ورسولهم، وهي كما نرى لا تختلف كثيراً عن الصورة التي تروجها الأطراف العنصرية، وبخاصة منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، مثل الكاريكاتور المسيء لشخص الرسول، والحملة ضد إقامة المساجد، والتحريض ضد المهاجرين المسلمين، والتهديد بحرق القرآن الكريم في مشهد احتفالي، إلخ. والمتأمل في كتاب «تاريخ العرب وحياة محمد»، يلاحظ بيسر تصدّي صاحبه بشجاعة تستحق التنويه، للرد على الصورة المحرفة المشوهة عمداً للعرب والإسلام والرسول. ويمكننا أيضاً أن نلاحظ – يقول المترجم - مدى التشابه بين الظروف التاريخية التي ألّف فيها الكونت دو بولانفيلييه كتابه وبين الظروف القائمة اليوم، ما يجعل من المناسب ترجمة هذا الكتاب وإعادة نشره في هذا الوقت بالذات. ويتضمن كتاب «تاريخ العرب وحياة محمد»، ثلاثة أقسام رئيسة، إضافة إلى التقديم الذي ضمّ أربعة فصول هي: «لماذا هذه الترجمة الآن أو ما أشبه اليوم بالبارحة؟»، و «العرب وبلدهم ومدنهم المقدّسة في نظر دو بولانفيلييه»، و «هل أحرق العرب حقاً مكتبة الإسكندرية؟»، و «رد المؤلف على حملات التشويه ضد الإسلام والرسول». حمل القسم الأول من الكتاب عنوان «صعوبات هذه الترجمة»، واحتوى ثلاثة مقالات هي: «الخطاب الاستشراقي بين غائية الأهداف وعوائق المنهج»، و «تهافت النقد الإيديولوجي للإستشراق»، و «إدوارد سعيد وغربنة الشرق المشرقن»، هذا المقال الأخير احتوى على أربع دراسات، الأولى: «الاستشراق الديني التأسيسي»، والثانية: «الاستشراق العلمي»، والثالثة: «الاستشراق الرومانسي»، والرابعة «الخطاب الإستشراقي الاستعماري». وخصص القسم الثاني لترجمة الكتاب الأصلي الأول وتفرع إلى خمسة أبواب: الأول «الأوروبيون والإسلام: إلى متى الأحكام المسبقة؟»، والثاني «بلاد العرب: الجغرافيا والسكان من خلال النصوص القديمة وأخبار التجار»، والثالث «وصف مكة والمدينة نقلاً عن رجل دين سويدي»، والرابع «تاريخ العرب السياسي قبل الإسلام»، والخامس «ديانة العرب وتقاليدهم حتى ظهور الإسلام». أما القسم الثالث فقد أفرد للكتاب الثاني وتفرع إلى سبعة أبواب: أولها «لماذا اختارت العناية الإلهية محمداً؟»، وثانيها «أخطاء الكراهية والتعصب»، وثالثها «حياة محمد قبل الرسالة: أسرته، طفولته وشبابه»، ورابعها «موقف محمد مما عاينه في فارس والشام»، وخامسها «زواج محمد وحياته الأسرية»، وسادسها «توضيح المؤلف لموقفه المدافع عن الإسلام ورسوله»، وسابعها «الرسالة». والكونت هنري دو بولانفيلييه (1658- 1722)، بدأ حياته العملية ضابطاً في الجيش، ثم تركه بعد وفاة والده ليتفرغ لإدارة أملاكه والانكباب على دراسة التاريخ وكتب التنجيم، وألف كتباً عدة التي خصص بعضها للمسائل الدينية، ولكنها لم تنشر في حياته وإن كان ذاع صيتها، حتى أن فولتير ألف كتاباً نسبه إليه بعنوان: «عشاء الكونت دو بولانفيلييه» وخصصه لنقد المذهب الكاثوليكي نقداً لاذعاً. ومعظم كتبه اهتمت خصوصاً بتاريخ فرنسا ودراسة النظام الإقطاعي الذي كان يدافع عنه، ورغم عدم معرفته باللغة العربية فقد ألّف كتابه هذا الذي نشر أولاً في سنة 1730 بعنوان «حياة محمّد»، ثم أعيد طبعه بعنوان: «تاريخ العرب وحياة محمّد»، وفي سنة 1747 تمت ترجمته إلى اللغة الألمانية، ولكن ما تضمنه هذا الكتاب من مواقف إيجابية من العرب والإسلام وشخص الرسول جعل المتعصبين من رجال الدين الغربيين والكتاب المستشرقين يهمشونه، بل وذهب البعض إلى حد تحريف فقرات منه والدس عليه عند نشره. ترجم الكتاب وحققه وعلق عليه المفكر التونسي مصطفى التواتي، أستاذ الحضارة العربية والإسلامية في جامعة منوبة – تونس، وهو حاصل على شهادتي التبريز ودكتوراه الدولة في الآداب والحضارة العربية الإسلامية من الجامعة التونسية. من أعماله المنشورة: «التعبير الديني عن الصراع الإجتماعي في الإسلام، 3 طبعات - تونس/ بيروت»، «المثقفون والسلطة في الحضارة العربية (جزءان)، طبعتان - تونس/ بيروت-»، «تونس الناهضة من التجديد إلى التحديث في القرنين 18 و19، الطبعة 1، تونس»، «فن الرواية الذهنية لدى نجيب محفوظ، 4 طبعات -تونس/ بيروت-»، «جدليّة الريف والمدينة في القصة التونسيّة، طبعتان (تونس/ بيروت)». شارك في عديد الندوات والمؤتمرات العلمية والملتقيات الفكرية في تونس وخارجها. وله دراسات وبحوث علمية عديدة في المجالات الفكرية والسياسية والحضارية منشورة في مجلات تونسية وعربية.