لا شك أن العبث الانتقائي والممنهج في الذاكرة الجماعية، أخطر من الاستبداد الذي خرج عليه الشباب العربي، فالحرية من دون تحرر في الوعي يحصّنها، تصبح آلية لتوليد العنف. وعليه نسأل: هل شكل السكوت عن هذا العبث، سبباً في خروج الحراك عن المأمول منه شعبياً؟ بداية الاحتجاجات في درعا، كانت كل الجهود منصبة على سلمية التظاهرات والشعارات الوطنية الجامعة، مقابل التعمد في السكوت عن الهتافات الطائفية مثل «لا إيران ولا حزب الله، بدنا مسلم، سني، يخاف الله»، و «علوية عالتابوت، مسيحية عابيروت»!. وبدل أن تسارع النخب السياسية، للحؤول دون انزلاق الحراك نحو التمذهب، عمدت إلى نفيها واتهام النظام بالوقوف وراءها، كذلك سكتت عن الأعمال المسلحة، والتي كان أبرزها، تعرض حافلة عسكرية بمدينة بانياس لكمين، في 10/4/2011، راح ضحيته سبعة عساكر وضابطان، وأما أعنفها، فتمثل بالهجوم على مفرزة أمنية بجسر الشغور، في 5/6/2011، أدى لمقتل 120 عنصراً، وتم خلاله ذبح من بقي حياً. وبدل إدانة الاعتداء، كونه يتنافى مع السلمية المفترضة، تم وضعه في سياق رد الفعل على ممارسات النظام! لقد غاب عن ذهن المعارضة أن من يكبرون وهم يذبحون البشر، لا يمكن أن يكونوا ثواراً. واستمراراً في صمتها، راجت الخطب الطائفية بالمساجد. ولم يمض عام على الثورة، حتى ظهرت محطات المعارضة إلى الفضاء، وتكفي متابعة بسيطة لهذه القنوات، لنعلم مدى تفشي الخطاب المذهبي فيها. بهذا المنحى كانت الثورة تخرج عن ثوريتها، فتراجع هدف الوصول للديموقراطية عبر تغيير النظام، إلى إسقاطه، وإقامة دولة إسلامية تحت شعار الدولة المدنية، وهو مطلب إخواني مستجد، في كل دول الربيع. ولو راقبنا تنسيقيات الثورة الطامحة للحرية والديموقراطية، وكيف ردت على شعار «الأسد قائدنا للأبد» بجمعة شعارها «قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد»، لأدركنا كيف ساهمت المعارضة بأسلمة الحراك، مزامنةً مع تشكل ألوية الحر تحت مسميات دينية متشددة، أفضت لخروج المعتدلين، بعدما حل محلهم جهاديو العالم، مشكلين بذلك خطراً، ليس على النظام فحسب، ولكن على المعارضة التي غطت دخولهم، أملاً بإسقاط النظام. هذا الخطر، كشفته صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخراً، عن مصادر رفيعة في الإدارة الأميركية، من أن الجهاديين الذين دخلوا سورية أكثر من الذين قاتلوا في العراق أو اليمن والصومال، وحتى أفغانستان! فهل يصح بعدها، مطالبة سليم إدريس للجهاديين، بالعودة لبلادهم، بعدما باتت سورية أرض جهاد، للشيعة حصة فيها، وللأكراد حلم دولة قد يتحقق؟ لقد ارتكب الائتلاف خطيئة استراتيجية، حين نصب نفسه ممثلاً وحيداً للشعب والمعارضة، الشيء الذي عمّق الشرخ مع هيئة التنسيق الوطنية، ووصل إلى حد التخوين، وهو ما استنكره ميشيل كيلو على شاشة العربية، قائلاً إن معارضي الداخل من الهيئة، أفنوا عمرهم في المعتقلات، ومن المعيب تخوينهم. وهكذا يتقدم الائتلاف على النظام بالإقصاء. فالسوريون يعلمون كيف بدأ رد الثوار على الشبيحة، وهم يقومون بذبحهم والتمثيل بجثثهم، مكبرين ومرددين «قولوا للشبيحة الحموية دبّيحة»، وبمقطع آخر، «الديرية دبّيحة» نسبة لمدينتي حماة ودير الزور. وما بين الشبيحة والدبيحة، انكفأت الثورة وحضر الخذلان، في الشارع. قبل انضمامه للائتلاف المعارض، كتب كيلو مقالة ذيّل عنوانها بعبارة «يا ساتر استر»، يفضح فيها ممارسات المسلحين، ويصفها بالخارجة عن مبادئ الثورة، وأن هؤلاء الثوار باتوا شبيحة!. وهذه نتيجة منطقية، لمسار طويل من الممارسات المسكوت عنها، أوصلت الخط البياني للثورة إلى القاع، بحيث لم يعد ينفع معه عمليات التجميل وترقيع المهترئ. ففي حزيران (يونيو) الفائت، نقلت قناتا الجزيرة والعربية ومعهما محطات المعارضة، مشاهد لمتظاهرين في بلدة تلبيسة، يرددون هتافات تلعن روح العلويين مرات عدة! فهل تخدم هذه الهتافات، الثورة؟ ثم ألا يجب احترام الأقلية المعارضة داخل هذه الطائفة، إذا كنا نبحث حقيقةً عمن نمد معهم جسور الشراكة الوطنية؟، أليس السكوت عن هذه الممارسات ما أدى لتغير المزاج الشعبي في المناطق «المحررة»؟ المعارضة بوضعها الراهن، مدعوة لأخذ العبر، بعدما فشل الإخوان في حكم مصر، كي تحظى بالاحترام والتقدير، من خلال مكاشفة صريحة لجمهورها، قد يعوضها عما لحق بها من إخفاقات. إذ لم يعد مجدياً التقليل من شأن الجهاديين، واعتبارهم قوة هامشية يعمد النظام لتضخيمها، لا سيما بعد كلام سليم إدريس لصحيفة «الديلي تلغراف» حيث اتهم رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بالخيانة، بعد تخليه عن خطط تسليح المعارضة، معتبراً أن قراراً كهذا يفتح الطريق أمام القاعدة، للسيطرة على المقاتلين المعارضين!. المحزن في الموضوع هو في تفاجؤ إدريس وعدم تساؤله: لماذا قام المرصد السوري المعارض في لندن مؤخراً، بالكشف عن انتهاكات المعارضة، والتي بدأت مع مقتل الفتى محمد قطاع أمام والديه، بعد تعذيبه من قبل الهيئة الشرعية بجرم الكفر؟ مروراً بعرض المجاهد أبو صقار من كتيبة الفاروق، وهو يقوم بشق صدر جندي وأكل قلبه جهاراً! وقد تلى ذلك فضح مجزرة حطلة بريف دير الزور، والتي ذُبح أهلها وسبيت نساءها انتقاماً لسقوط القصير! وصولاً لذبح كاهن مسيحي مع آخرين، وانتهاءً بكشف مجزرة خان العسل التي ارتكبها لواء أنصار الخلافة والنصرة، إلخ!. بعد كل ذلك، ألا يذكر رئيس أركان الحر، كيف غطى مع الائتلاف المعارض جمعة «جبهة النصرة ليست إرهابية»!. أما وقد سبق السيف العذل، فلا يعود اللوم مجدياً في تحميل المجتمع الدولي والنظام مسؤولية ما آلت إليه سياسة المسكوت عنه. فطلب التسليح المنشود يطيل الأزمة ولا ينهيها. * كاتب سوري.