يضجّ العالم الفايسبوكي بالقصائد والنصوص والخواطر التي تسافر عبر الفضاء الافتراضي بحرية وسعادة، حاملة تواقيع لأسماء قلّة منها معروفة، والقسم الأكبر منها لكتّاب لم يسمع بهم أحد من ذي قبل، على الأقل خارج العالم الافتراضي. وبالرغم من ذلك، يبدو أنّ هذه الأسماء المجهولة بالنسبة إلينا هي ذات شعبية فايسبوكية تتخطى أحياناً غيرها من الأسماء المعروفة. قد تكون هذه الظاهرة مستفزة لكثيرين يستنكرون حق أمثال «فلان» أو «علان» في تنصيب أنفسهم شعراء على الفايسبوك، خصوصاً أنّ نسبة الإعجاب أو «اللايكات» التي تحصدها نصوصهم وقصائدهم تفوق النسبة التي تحظى بها كلمات بقية الشعراء المخضرمين. هكذا يُمكن أن يترائ لنا أننا في خضم معركة غريبة وطريفة عنوانها: «الشاعر الافتراضي» مقابل «الشاعر الحقيقي». إنها معركة سوريالية تضعنا أمام أسئلة تصعب الإجابة عنها. فكيف يحصد المرء لقب شاعر ومن يمنحه هذا اللقب، النقاد أم الشعراء أم جمهور العامة المتمثل بالفايسبوكيين؟ وبالرغم من تخوّف الكثيرين من هذه الظاهرة التي يرون فيها تهديداً لمكانة الشعر أو استهتاراً بقيمته، تبقى لهذه الظاهرة إيجابياتها، بخاصة إذا ما تناولناها خارج أزمة «الأنا» المتضخمة التي يعانيها الشعراء الافتراضيون والحقيقيون على السواء. أمّا المفاجأة أو الاستنتاج الذي يُمكن استخلاصه - وبدهشة - فهو أنّ الشعر لم يمت تماماً. وإنّ إقبال الناس على قراءة النصوص الشعرية، المبتذلة أو الجيدة، المنشورة على الفايسبوك، هو إنجاز في ذاته، لأنّ الشاعر نفسه يعرف تماماً أنّ قرّاء الشعر خارج الفايسبوك هم أقلية مهددة بالانقراض، هذا إذا ما استثنينا أصدقاء الشاعر أو عائلته أو الشعراء الآخرين الذين يشترون الكتاب بداعي الحرج أو المنافسة. والمرجّح أنّ ذلك يعود إلى الدور الذي يلعبه الفايسبوك في تخفيف المادة الشعرية التي هي عادة ثقيلة، خصوصاً حين تكون من النوع الجيد، فهو لا يسمح فعلياً إلا بنشر القصائد الصغيرة نسبياً، وهذا ما يجعلها أقلّ وطأة على القارئ. وفي المقابل، يضع الفايسبوك الشاعر في مواجهة جمهور غير نخبوي، وهذا قلّما يحدث في الخارج. قرّاء الفايسبوك لا ينتمون عادةً إلى خلفية ثقافية محددة، هكذا يخرج الشعر أو بالأحرى الشاعر من عزلته ليصطدم بجمهور من نوع آخر، وله تصوره المختلف عن الشعر. جمهور الشعر الفايسبوكي لم يتعرف ربما إلى الشعر سوى عبر الكتب المدرسية ومنهاج الأدب العربي في صف البكالوريا، أو من خلال قصائد نزار قباني التي يُغنّيها كاظم الساهر. ومنهم من يعتقد على سبيل المثل أنّ الشاعر الفلاني المتقدم في العمر، هو خاتم الشعراء، واللوم في ذلك لا يقع فقط على تدنّي ثقافة القارئ العربي، بل أيضاً على انعزالية الشعراء وتقوقعهم داخل وسط ضيق لا يحاكي إلا نفسه شعريا ونقدياً... وإذا أردنا أن ننظر عن كثب، وبأسلوب فيه شيء من الطرافة، إلى الشعراء الافتراضيين، نجد غالباً أنهم ينقسمون إلى ثلاث فئات. الفئة الأولى، الأكثر شعبية، هم شعراء أو شاعرات «الوردة والسكين»، كما يحلو لي تسميتهم، ويعتمد هؤلاء على تقنية تشبه هندسة الديكور في ترتيب قصائدهم، ولديهم معجم لغوي مميز جداً من الكلمات الشعرية على نمط «وردة «، «قمر» ، «قبلة»، «أشواك»، «أشواق»، يوزعونها ببراعة في كل قصيدة يكتبونها، وهؤلاء لديهم جمهورهم الرومنطيقي «المتيّم»، والذي لا يقلّ عنهم شاعرية في تعليقاته التي تطالعك على الفايسبوك مثل: «كم أنت رائع في إحساسك، قتلتني مرتين...». الفئة الثانية اللافتة تتكوّن من الشباب الذين يعتمدون مبدأ الغرابة أو الرعب والتهويل. وتلجأ هذه الفئة أحياناً إلى تقنية أكثر حداثة، تعتمد على مبدأ الإبداع الغثياني، فتقحم الظفر أو اللسان أو اللعاب بين كل ضربة شعرية وأخرى، وهي أيضاً لها جمهورها الخاص المُحبّ لأفلام الرعب. أما الفئة الثالثة، وهي الأكثر تقشفاً، فتضمّ شعراء الجملة الشعرية الواحدة، وهم الذين تقاعدوا بعد أول سطر أنتجته مخيلتهم الفذّة قبل أن يتفرّغوا للتلويح للمعجبين. وقد تكون هذه الفئة الأخيرة هي الأكثر إثارة للاهتمام لأنّ شعراءها هم أشخاص لا يدّعون كتابة الشعر، بل يستخدمون الفايسبوك كمتنفّس أو كنوع من دفتر يوميات، ويُمكن أن تقرأ لهم أحياناً نصوصاً مدهشة ومبتكرة. والحقيقة أنّ مطلق إنسان، إذا ما نجح في تقديم نفسه بقليل من الحنكة، يستطيع أن يصبح شاعراً في الفضاء الافتراضي. ولا تتعلّق المسألة هنا بالشعر تحديداً، فمن خلال الفايسبوك يستطيع أي شخص اختلاق الشخصية التي يحلم بها، ويُمكن هذه الشخصية بطبيعة الحال أن تجد جمهورها الذي ُيصفق لها، لأنّ الفضاء الافتراضي رحب ويتسّع للجميع. ولعلها الميزة الخاصة بالفايسبوك وأحد أهم أسباب نجاحه. فالفاسيوك يُشبه إلى حد ما تلفزيون الواقع، مع اختلاف بسيط هو أنّ الكل يلعب فيه دور الممثل والجمهور في الوقت نفسه. لكنّ هذه الظاهرة لا تنحصر فقط بالفايسبوك، بل تمتدّ إلى الفضاء الحقيقي في الخارج، بدليل أنّ العديد من هؤلاء الشعراء الافتراضيين باشروا فعلاً بنشر الكتب أو الدعوة إلى أمسيات شعرية، ومنهم من يتضحّ بعد التدقيق أنهم شعراء معروفون نسبياً في بعض الأوساط، برغم صعوبة تصديق ذلك نظراً إلى مستوى كتاباتهم. والفايسبوك في الحقيقة ليس سوى مرآة لما يحدث في الخارج، فالجمهور الافتراضي لا يختلف فعلياً عن جمهور النقاد المخضرمين الذين يدعون الاحترافية والذين لا يعرفون عن النقد سوى مبدأ الاحتفالية أو التهجم، انطلاقاً من قانون العلاقات الشخصية والعامة. وبالعودة إلى المعركة بين «الشاعر الافتراضي» و «الشاعر الحقيقي»، فمن الواضح أنه لن يتبقى أي شيء حقيقي، لا شاعر و لا شعر، إذا ما استمرّ واحدنا يُصفّق للآخر ببلاهة، كما هو حالنا اليوم.