بعد أن أفلحت في إبعادها لسنوات، عادت مقولة أبي أخيراً لتحوم في رأسي، حتى باتت اليوم حقيقة ناصعة، وكلما التفتُّ إلى الخلف ورأيت أنني فقدت ثلاثة من إخوتي بالطريقة نفسها التي ذكرها، لاح لي أنه كان يرى في هذه اللحظة ما سيحدث بعد سنوات، رغم أنه كان يتوه عن الوعي ويعود إليه، فحين سألته عن عمره وزجاجة الغلوكوز الأخيرة معلقة في الحائط، لأقيس درجة الوعي، قال متوسلاً كطفل صغير: «عايز أروّح». زعقتُ قرب أذنه متسائلاً: «خمسون؟»، ففتح جفنيه مستنكراً: «هل بلغها أحد في العائلة؟!»، وأدار وجهه للحائط، وشد الجلباب على ساقه المكشوفة ثم قال في ضجر: «أنا تأخرت، خد بالك من الولد ده... هيقع من على المرجيحة»، وكان صلاح يتشقلب حولنا على سور السلم، ثم أشار بإصبعه إلى سناء وقال: «ودي هتقع وهي بتقلده»، وكانت سناء تصعد إليه حبواً مستندة إلى سور السلم، ولم يكن قد بقي له حين رحل في هدوء حتى يبلغ الخمسين سوى يوم واحد، ليسقط أخي في الثانية والثلاثين بالفشل الكلوي، وتتبعه أختي بالطريقة ذاتها بعد عامين. لا أعرف كيف تحولت مقولة أبي العابرة إلى حقيقة لا تقبل الجدل، ورغم أنني صرتُ - وأنا أقترب من الخمسين - وجهاً لوجه معها، فإنني لم أخبر أحداً بما يدور داخلي، ولم أعمد إلى إتقان الأمر على هذا النحو، لكن الأمور كانت مهيأة وحدها، فقد طلبت سالي وسوسن أن تبيتا عند جدتهما، وأن تعودا في الصباح، ونشب في غير موعده خلاف صغير بيني وبين زوجتي في العاصمة، فاعتبرت نفسي «مقموصاً» فلا أرد على تليفوناتها. كانت الأمور مهيأة، ولم يكن عليّ سوى أن أُغلق الباب، وأُهمل منذ بداية اليوم مُسكِّنات الألم، ومُخفِّضات الضغط والكولسترول، والأدوية الواقية من الجلطات، فلا يكتشف أحد الأمر إلا بغتة في اليوم التالي. لم يشغلني ما قطعت، بل ما تبقى أمامي، وهو ما بدا - حسب مقولة أبي - قليلاً، حتى رقَّ مثل غلالة، رأيتُ من خلالها أترابي القدامى في مقاومة الدودة وجني القطن ومصانع الكتان يشخصون أبصارهم باتجاهي بتساؤل وحيد: كيف راوغتُهم كل هذا الوقت واختلستُ شهادة عليا في الطب والجراحة، وماجستير في النساء والتوليد، وطلعتُ من زيجة فاشلة بابنتين توأم لم تعودا طفلتين، وقسمتُ روحي نصفين، أحدهما في البلدة والآخر في العاصمة، بينما انتُزِعوا هم عنوةً قبل أن يحققوا شيئاً من ذلك، فأجبتهم بالصمت. كنت أعلم أنني اقتربت تماماً من حافة الخمسين حين رأيتُ بوضوح كل الذين غادروني يجلسون على أرجوحة دوَّارة، أشبه بناعورة، نصفُها في الهواء ونصفها مغمور في الماء، ينتابهم الصخب والمرح حين يكونون في الهواء، والفزع حين يقتربون من الماء، فيتشبثون بالأرجوحة حتى إذا ما صعدتْ بهم من الجهة الأخرى هزوا رؤوسهم وهم ينثرون الماء وأخذوا شهيقاً عميقاً ثم صرخوا... عيناي اتسعتا من الدهشة، حين اكتشفتُ أن الذين تصعد بهم الأرجوحة من الماء ليسوا هم على وجه التحديد الذين نزلتْ بهم، إنما يشبهونهم. حدقتُ بعيني في الماء فهالتني أعداد هائلة كأسماك نافقة، واحترت ما إذا كان الصاعد مع الأرجوحة لأعلى هو أخي صلاح أم أحمد الذي مات من مرض فهمتُ في ما بعد أنه لوكيميا لم تُشخّص، وهالني الشبه بينهما وبين جدي الذي رأيته في طفولتي، ولم أعد متيقناً ما إذا كانت سناء هي التي تشير لي من أعلى الأرجوحة أم إحدى ابنتي سالي وسوسن، الأمر الذي جعلني أعاود التحديق في الماء. أدركت أنني أتممتُ الخمسين حين غمرني الماء تماماً، ورأيتُهم ممتثلين في استرخاء، بأهداب مطبقة، وأيد معقودة على صدورهم أو مسدلة خلف ظهورهم، بلا أدنى رغبة في التقلب، صمتٌ شديدٌ كأنما في قاع نهر كبير، يشخصون أبصارهم نحوي، بنظرات متسائلة، وطلبات خلتُ أنها بسيطة، لا تعدو أن يكون أحدهم عطشان، فأمد كفي إلى فمه بحفنة ماء، من دون أن أتخيل أن يكون بهذا الظمأ والماء من حوله، وأنه لم يشرب منذ زمن، أو أن آخر يريد من يعدل له رأسه، أو يهرش ساقه، وما إن بدأتُ في تلبية طلباتهم، حتى رأيتُهم يتدافعون باتجاهي كطيور سابحة في السماء، يتناثر من حفيف أجنحتهم وأرديتهم الفضفاضة رذاذ الماء، وعيونهم شاخصة نحوي بامتنان. لم أستطع إهمال مقولة أبي أكثر من ذلك، ولا مجرد التشكيك في كونها حقيقة، ولا التفكير في ما سأفعله لو تحقق افتراض يخامرني منذ أغلقتُ الباب، وكنت الناجي الوحيد من العائلة الذي يتمكن من بلوغ الخمسين، فقد كنت متيقناً أنه احتمال بالغ الضآلة، حتى رأيتهم يشخصون أبصارهم نحوي بغبطة وامتنان، فانتابني شعور مبهج، فكرتُ على إثره في ماهية ذلك الشيء الغامض الذي يجعل المرء فرحاً لمجرد البقاء إلى اليوم التالي، فلم أصل إلى شيء، حتى جاءني صوت موغل في البعد لباب يُفتح من الخارج، دخلتْ منه سالي وسوسن، ورنين هاتف يأتي من مكان سحيق، خرج منه صوت بعيد من العاصمة يعاتبني قبل أن يقول صباح الخير على أمرين: «زعلي الوِحِشْ جِدّاً»، وعدم الرد إلا بعد المكالمة الخمسين.