أشاحت فاطمة بوجهها يميناً عندما تفوّه الشاب الواقف على يسارها في محطة المترو الرئيسية في العاصمة التونسيّة، بكلام ناب يخدش الحياء. وعندما كرر الشاب كلامه موحياً بأنه يخاطب صديقه بتلك العبارات ذات المدلول الجنسيّ، رمقته الموظفة بنظرة صارمة وهي تمنّي النفس بوضع حدّ لسلوكه، لكنّها لم تتوقع البتّة ردة فعله العنيفة. سيل جارف من السّباب الساخط قذفها به الشاب ل «تجرُّئها» على إطالة النظر إليه ما دفعها إلى توقيف أول سيارة أجرة تمر عوضاً عن الحرج ونظرات الشفقة التي رمقها بها المسافرون من دون أن ينبس أي منهم ببنت شفة وكأنّ ما جرى أكثر من عاديّ. قد يسمع زائر تونس الأجنبيّ كثيراً عن ظاهرة العنف اللفظي التي تميّز الشباب وقد يقرأ أيضاً عن تصنيفات تجعل من الشارع التونسي الأوّل عربياً في ظاهرة العنف اللفظيّ، إلا أنّ جولة بسيطة عبر وسائل النقل العموميّ أو جلسة قصيرة في أحد المقاهي الشعبيّة أو الفاخرة، ستجعله يدرك تفشي هذه الظاهرة في شكل أسرع وأكثر خطورة مما يقال. دراسة «المرصد الوطني للشباب» الحكوميّ المختصّ في إعداد إحصاءات رسمية حول الشباب، التي صدرت عام 2007، أثبتت أن 88 في المائة من الشباب التونسي يمارس العنف اللفظي. ويرجّح المتابعون أنّ النسبة قد ارتفعت خلال السنتين الماضيتين. «حتى شهر رمضان الكريم لم يكبح جماح أبنائنا عن إيذائنا بتلك العبارات القبيحة التي لاحقتنا إلى بيوتنا، أطفالي لم يستحوا من أمّهم وعنفوها لفظياً في أكثر من مناسبة»، تقول شهرزاد وهي أم لطفلين. ظاهرة العنف البدني واللفظي منتشرة لدى الناشئة ما دفع بوسائل الإعلام المحليّة إلى التطرق للموضوع وإطلاق صيحات الفزع مراراً و تكراراً. واستناداً إلى المختص بعلم النفس جميل حسواك، فإنّ هذه الظاهرة تمثل «مرضاً اجتماعياً وشكلا من أشكال التعويض والتصعيد، أي تعويض لإثبات الذات وتحقيق الغلبة على الآخر، كما تعتبر انعكاساً جليّاً لفقدان العلاقة السليمة مع الآخر وعدم التمكّن من تقنيات التواصل». ووفق المختص نفسه، «لا يقل العنف اللفظي خطورة عن العنف المادي، فالماديّ يُخلف أضراراً مادية بالمُستهدف، أما اللفظي فيخلّف أضراراً معنوية تسيء للفرد والمجموعة، خصوصاً في مجتمع عربيّ كالتونسي». ويقول منير (19 سنةً) إنه يتفوه بالشتائم «منذ أن تمكنت من النطق بسبب والدي الذي يُعنّفنا نحن وأمنا لفظيّاً كلما انزعج منا». وعلى رغم أن دراسة المرصد الوطني للشباب الرسمية رأت أنّ ظاهرة العنف اللفظي لدى شباب تونس هي إحدى علامات «الحركية والحيوية والنشاط في بنية المجتمع» ويمكن اعتبارها «مظهراً من مظاهر حركية المجتمع وعلاقة تفاعل وتعبير لا تحمل دوماً مخاطر التدمير والإيذان بالتخريب»، اعتبرت ان مقاومة العنف اللفظي تستدعي «جهداً وطنياً شاملاً تساهم في بلورته وتنفيذه أطراف مجتمعية ومؤسسات عديدة، كقطاعات التربية والثقافة والشباب والرياضة والإعلام والأمن والشؤون الدينية والجمعيات والمنظمات والأفراد». أئمة المساجد استغلوا من جهتهم حلول شهر الصيام ليشددوا في خطبهم على أنّ «اللغو والكلام البذيء يبطل الصيام»، ودعوا التونسيين وخصوصاً الشباب إلى «التخلي عن هذه العادات السيئة الوافدة التي تبطل الصيام وتهدد المجتمع وتضربه في الصميم». لكن عدداً من الشباب ممن تحدثت معهم «الحياة» يُصرّون على أنّ «الكلام البذيء ظاهرة عادية ومُتجذرة لدى التونسيين وليست وافدة بدليل أنهم تعلموها من الكبار وليس من الأجانب ووسائل إعلامهم». وأظهرت الدراسة المتعلقة بالعنف اللفظي أن اللفظ الجنسي هو الأكثر استعمالا بين الشباب خصوصاً في حالات الغضب، يليه سبّ الديانة والجلالة فسب الوالدين ثمّ التعيير والتحقير والدعاء بالشر. إلا أنّ المتابع لجلسات الشباب الخاصة يكتشف طغيان ما يسمى ب «النكتة الجنسية» التي يكون فيها العنف اللفظي سيّد الموقف. أما في المدارس و المعاهد فتتزايد معاكسة الفتيات بشتى الأساليب خصوصاً عن طريق الإشارات والسخرية والكتابة على الجدران والطاولات والكراسي واللوحات الإشهارية. ويشار إلى أنّ المُشرّع التونسي يجرّم العنف اللفظي ويعتبره جريمة تستوجب معاقبة مرتكبها بالسجن لمدة تتراوح بين 16 يوماً إلى خمس سنوات على أقصى تقدير. إلا أنّ القوانين المُسجلة في هذا السياق تعتبر « قوانين مهجورة» لا تطبّق إلا في حالات نادرة.