يختلف سير الوقائع الميدانية السورية كثيراً عن صيرورة المشهد الديبلوماسي الرديف والمتشكل على هامش الحالة السورية. الفارق يكاد يكون جوهرياً، وحتى متناقضاً، مما يدفع كل حالة، على حدة، أن تتطور وفق آلياتها وشروطها ودينامياتها الخاصة، لتنتج صيغتها الخاصة، بعيداً من ترهات إمكان تغذية الميداني للديبلوماسي أو العكس. يتشكل المشهد الميداني في سورية على هواه، بطريقة فوضوية تتميز بسيولة جارفة، تؤسس لمعطيات رخوة ومتحركة وغير دائمة، طريقة لا يمكن الاستفادة منها أو البناء عليها من قبل الأطراف المتصارعة، كما لا يمكن توظيفها لصالح أي من الأطراف، وهو أمر تحولت في ظله الجغرافيا إلى عبء ومصدر استنزاف دائم للطرف الذي يسيطر عليها، وخرجت من كونها ميزة صراعية لها أثرها وفاعليتها. ثمة تطورات كثيرة، في الواقع الميداني، أفرغت الجغرافيا السورية من كونها عنصراً منتجاً لأي قيمة إضافية، وحوّلتها إلى مجرد ركام تتطلب المحافظة عليه شروطاً صعبة ليس بمقدور طرفي الصراع المنهكين توفيرها، لا في الظروف الحالية ولا في المستقبل المنظور: - حالة الحصار الخانق التي تعانيها جميع المناطق السورية، سواء تلك التي تسيطر عليها قوات النظام، أو الخاضعة للثوار، وهي حالة غريبة تحصل في سورية، إذ أن الطرفين في حالة محاصر(بكسر الصاد) ومحاصر( بفتح الصاد)، الأمر الذي نتج عنه تعطيل كل المزايا الإستراتيجية للمناطق التي في حوزة كل طرف، فالمناطق المحررة كلها من دون استثناء تعاني من حالة حصار خانق، وقطع مع باقي الجغرافيا السورية، وكذا بالنسبة الى مناطق النظام، حتى تلك التي تشكل معاقله الأساسية غرب سورية، لا تعمل بكامل فعاليتها الجغرافية ويستلزم تشغيل جزء من تلك الفعالية واستمرار دوامه استنفاراً دائماً واستنفاد مجهودات كبيرة، يكفي للتدليل على ذلك الجهود الكبيرة التي يبذلها النظام و» حزب الله»، ومن ورائهما الدعم الروسي - الإيراني الهائل للمحافظة على خط الساحل- حمص- دمشق، وهي لا يمكن ضمان استمرارها الدائم تحت وقع حالة الاستنزاف الكبيرة، كما لا يمكن ضمان فعاليتها دائماً بالسوية ذاتها. - حالة تعطل القدرة الإنتاجية الاستثمارية لتلك المناطق بسبب وضعية عدم الاستقرار التي تعيشها البلاد منذ حوالى ثلاث سنوات، وهو الأمر الذي نتج عنه تعطل العناصر الاقتصادية، إن لم يكن بشكل نهائي، فعلى الأقل بالشكل الذي لا يفي حاجة تلك المناطق من متطلباتها الأساسية، ففي الوقت الذي يسيطر الثوار على سهول حوران الخصبة، تعجز هذه الأخيرة عن إطعام البشر الموجودين فيها بسبب توقف الزراعة فيها، كما تتحول آبار النفط، في الشمال الشرقي، وبسبب عدم توافر طرق لنقلها وتصديرها، إلى عبء كبير على المعارضة، وسبباً للخلاف والصراع بين بعضها بعضاً، في المقابل أيضاً تتعطل كل عناصر الاقتصاد التي يعتمد عليها النظام في تسيير شؤونه وتدبير أموره، من سياحة وجباية وضرائب، بل أنه يصبح ملزماً بتقديم الخدمات للمناطق التي يسيطر عليها لضمان استمرار ولائها له، وهو الأمر الذي ينتج عنه مراكمة العجز في ظل اقتصاد عسكري ينوء تحت حالة استنزاف آلته العسكرية المستمرة في حركتها. - حالة الدمار التي خلفتها الحرب، والتي تتجاوز نسبتها، وفق تقديرات كثيرة، أكثر من نصف عمران سورية، وهي حالة، بلا شك، طاردة لأي إمكان للحياة والاستقرار فيها، حاضراً وفي المستقبل المنظور، فضلاً عن كونها تشكل عبئاً لا طاقة للدولة السورية، التي ستخرج من ركامها، على تحمله، أياً يكن شكل حكامها وطبيعة توجهاتهم. في المقابل، يصارع الهامش الديبلوماسي، المتاح إقليمياً ودولياً، لإنتاج شكل لسورية، يكون قابلاً لتوظيفه في صراع المصالح الدولية، نمط يحمل في طياته مراعاة كبيرة لواقع جيواستراتيجي متخيل، يرتكز على حيثيات جغرافية ذات طبيعة مؤثرة وفاعلة في عملية السيطرة وإعادة توزيع مناطق النفوذ في المنطقة، من دون أي اعتبار لأثر كل ذلك على مسار عملية التشكل الداخلية السورية والاحتمالات العديدة المفتوحة عليها عملية التشكل هذه. في سبيل ذلك، ونظراً للتقديرات المختلفة لطبيعة الفرص المحتملة في مدركات كل طرف دولي وتصوراته، ونظراً للواقع المعقد الذي بات كل طرف يجد نفسه فيه، يتجه المجال الديبلوماسي صوب إستراتيجية جديدة للتعامل مع الحالة السورية يعتمد نمط فتح الثغرات الصغيرة في جدار الأزمة. الهدف من وراء هذا السلوك الديبلوماسي واضح، وهو مراكمة نقاط الاتفاق بين الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة بالشأن السوري، وبالتالي الوصول إلى مبادئ أساسية يمكن الانطلاق منها لتأسيس توافق ما، من هنا يأتي ميل الدول الغربية إلى محاولة التقارب مع الموقف الروسي عبر تراجعها عن تسليح المعارضة، وفي السياق ذاته تأتي تصريحات رئيس هيئة الأركان الأميركية مارتن ديمبسي بأن التدخل العسكري «من شأنه أن يحول سورية إلى بلد فاشل». غير أن هذا البناء الديبلوماسي المراد تأسيسه، قد لا يصار إلى إنجازه بالشكل الذي قد يساعد على حل الأزمة السورية، كما أنه معرض للانهيار في أي لحظة نتيجة اختلاف رؤى الأطراف المختلفة للحل النهائي، فيما الوقائع الميدانية تذهب باتجاه تشكيل حالة قد تتحول مع الزمن إلى واقع صلب لا يمكن لأي جهد ديبلوماسي تعديله أو التأثير به، بخاصة إذا زاوجنا هذا الواقع مع الواقع السيكولوجي للسوريين. * كاتب سوري