خلال الشهور الماضية ازداد الحديث حول مستقبل النفط في قطاع الطاقة حول العالم. وأدلى أكثر من خبير نفطي ومحلل اقتصادي بآراء وتوقعات في شأن إمكانات تراجع الأسعار خلال السنوات المقبلة. ولا شك في أن تواتر الأنباء في شأن النفط الصخري والغاز الصخري، خصوصاً في الولاياتالمتحدة، عزز توقعات الخبراء الذين يميلون في تقويمهم إلى أن أسعار النفط الحالية مرتفعة ولا بد من أن تتراجع بحكم العرض والطلب. واعتمد هؤلاء على أن الطلب على النفط المستورد في الولاياتالمتحدة يتراجع فيما يرتفع الإنتاج الأميركي، ونظراً إلى أن الولاياتالمتحدة هي الأعلى استهلاكاً للطاقة المتولدة من النفط، لا بد للطلب العالمي من أن يتراجع، ما يعني انخفاضاً في الأسعار خلال السنوات المقبلة. وقد تكون هذه المسألة، وهي مستويات الطلب وازدياد الإنتاج في الولاياتالمتحدة، من العناصر التي ستؤثر في مستويات أسعار النفط ولكن لا بد من أخذ عوامل أخرى في الاعتبار قبل استشراف الجوانب الاقتصادية للنفط. وصحيح الزعم بأن معدل الاستهلاك للطاقة في الولاياتالمتحدة هو الأعلى على المستوى العالمي، بما في ذلك معدل الاستهلاك في البلدان الصناعية الرئيسة، ولكن ثمة مؤشرات إلى أوضاع اقتصادية عدة في العالم قابلة للتغيير بما يؤدي إلى تحسن مستويات المعيشة بما يزيد معدلات الاستهلاك ومن ثم الطلب على مصادر الطاقة، بما فيها النفط. ومنذ ارتفاع أسعار النفط في 1973 إثر الصدمة النفطية الأولى، مرت أسواق النفط بحالات من الارتفاع والانخفاض. ففي نهاية السبعينات ونظراً إلى المخاوف من انعكاسات الثورة في إيران خلال 1978 - 1979 على مستويات العرض، ارتفعت الأسعار إلى 40 دولاراً للبرميل، وهو مستوى مرتفع آنذاك، وأدى ذلك إلى مشكلات في البلدان المستهلكة وتقنين بيع البنزين في أميركا. ولكن سوق النفط سرعان ما أصبحت سوقاً للمشترين وتراجعت الأسعار بما أوجد أزمة لمنظمة «أوبك» عندما انخفضت الأسعار إلى حوالى سبعة دولارات للبرميل في 1986، ما دفع دول «أوبك» إلى خفض إجمالي إنتاجها إلى 16 مليون برميل يومياً على رغم احتدام الحرب بين العراق وإيران وقتذاك وتأثيرها في صادرات البلدين، فالسعودية وبلدان أخرى رفعت إنتاجها وعوضت عن تراجع صادرات البلدين. وسرعان ما تمكنت «أوبك» من تلافي أزمة هيكلية في الاقتصاد النفطي وانتعشت الأسعار مجدداً بما مكن البلدان المنتجة من تحسين إيراداتها من صادرات النفط. وغني عن البيان أن السنوات ال30 الماضية شهدت ارتفاعاً في الطلب فيما ازداد العرض بفعل دخول بلدان أخرى من خارج «أوبك» ميدان الإنتاج أو زيادته. كيف يمكن اليوم تقويم سوق النفط؟ ثمة توقعات بتصاعد النمو في الطلب على النفط خلال 2014، وربما بمعدل 1.1 مليون برميل يومياً، على رغم أن صندوق النقد الدولي أشار إلى أن معدل النمو في الاقتصاد العالمي قد يتراجع. وارتفع الطلب على النفط هذه السنة بمقدار 930 ألف برميل يومياً. وفي المقابل تدور إمدادات النفط على المستوى العالمي حول 91.9 مليون برميل يومياً، تقدّم دول «أوبك» 30.4 مليون برميل يومياً منها أو 33.1 في المئة. قد لا تتأثر أسعار النفط قريباً مع بقاء أحوال العرض والطلب متقاربة. وربما يرى خبراء أن أحوال الاقتصاد العالمي ليست مريحة أو مطمئنة بدرجة كافية، فلا تزال اقتصادات الاتحاد الأوروبي صعبة وتعاني مشاكل منطقة اليورو والديون السيادية لبلدانها، ولكن السياسات المالية المعتمدة وتوجهات البنك المركزي الأوروبي الهادفة إلى إنعاش النشاط الاقتصادي قد تعجل في توفير الأوضاع المناسبة والداعمة للانتعاش الاقتصادي. يضاف إلى ذلك أن الولاياتالمتحدة أظهرت قدرة على التعافي خلال الشهور الماضية وتحسنت ثقة المستهلكين وبدت مظاهر إيجابية في سوق العمل فتراجع معدل البطالة إلى 7.4 في المئة. بيد أن الحديث عن أوضاع سوق النفط في الأجلين المتوسط والبعيد يجب أن يأخذ في الاعتبار مسائل أخرى مثل إمكانات النجاح في جعل مصادر الطاقة الأخرى أكثر قبولاً من الناحية الاقتصادية. ثم هل يُتوقع أن تتحسن أوضاع الاقتصادات الناشئة بما يعزز الطلب على الطاقة؟ مر الاقتصاد العالمي خلال السنوات المئة الماضية بتطورات عدة وتحسنت آلياته وتقدمت القدرات التكنولوجية وارتفعت توقعات الاستهلاك في مختلف البلدان. ورفعت هذه العوامل معدلات استخدام الطاقة بما عزز الطلب على النفط الذي ظل الأقل كلفة اقتصادياً بين مصادر الطاقة البديلة الأخرى. ولكن الحديث حول إمكانات تراجع الأسعار في شكل حاد نظراً إلى تحسن القدرة على إنتاج النفط الصخري أو الغاز الصخري في الولاياتالمتحدة وكندا وغيرها، أو إمكانات بلدان جديدة على صعيد إنتاج النفط، قد لا يكون موضوعياً من دون التدقيق في عناصر الطلب المتوقعة ومدى القدرة على تحسين إنتاج الطاقة من مصادر تكون أكثر قبولاً بيئياً واقتصادياً. لا يمكن الجزم في صورة علمية بمستويات الأسعار ما لم يجرِ التيقن من العناصر المشار إليها. ولكن، إذا كان العالم قادراً خلال السنوات المقبلة على تجاوز الأزمات المالية والمصاعب الاقتصادية فإن الطلب على النفط وغيره من مصادر الطاقة قابل للارتفاع والتحسن بما يعزز إمكانات تماسك الأسعار أو ارتفاعها. كاتب مختص بالشؤون الاقتصادية - الكويت