ما لم يسقط النظام فجأة في دمشق، وتمسك مقاليد السلطة حكومة قادرة، فإن معركة الساحل السوري آتية. يخطئ من يقفز على هذه الخلاصة، أو من يحشد الحجج النظرية لاستبعادها بدل الاشتغال على التقليل من آثارها السلبية المتوقعة. قد يكون فتح جبهة الساحل أخيراً مجرد إنذار صغير، وقد لا تنجح الكتائب المقاتلة حالياً، بإمكاناتها المتواضعة، في التقدم ضمن أرض وبيئة معاديتين، إلا أن فشلها لا يعني التوقف عن المحاولة كما حدث في مناطق عدة. لن تمنع المعركةَ التحذيراتُ من الانزلاق إلى حرب طائفية معلنة، فالواقع يقول إن الحرب الطائفية بدأت فعلاً مع عمليات التطهير الطائفي التي باشرها شبيحة النظام وقواته في البيضا وبانياس في أيار (مايو) 2011، وأنجزها فيهما تماماً بعد سنتين، مروراً بتطهير الحفة قبل نحو سنة وشهرين، فضلاً عن عمليات التطهير المستمرة في مدينة حمص ومنطقة سهل الحولة. في كل تلك المناطق، لعب الشبيحة دوراً يفوق دور القوات النظامية في تأجيج الأحقاد الطائفية، فبالإضافة إلى مساهمتهم في الاقتحام العسكري لها ارتكبوا المجازر البشعة مستخدمين السكاكين، ونهبوا الممتلكات وأحرقوها. أهالي المناطق المنكوبة يعرفونهم، ويعرفون من أي جوار أتوا، وهم ليسوا بالقلة التي يصوّرها بعضهم إما للتهوين من شأن الأحقاد الطائفية وإما للتبرؤ اللفظي من أفعالهم. من المرجّح ألا تغيّر معركة الساحل التي أُعلن عنها قبل أسبوع الوقائع على الأرض، وأن يكون أثرها الإعلامي أو النفسي أكبر من آثارها العملياتية، وبسبب تلك الآثار لا يُتوقع من النظام أن يفرّط بسهولة بالأمان الذي يوفره لأنصاره هناك، والذي بات شبه منعدم في بقية المناطق. لكن الوقائع الحالية، وما رافقها من ردود فعل وروايات، تصلح للدلالة على المنحى الذي ستأخذه المعركة الكبيرة التي لا يستبعدها ألدّ أعدائها، وربما تكون قد بدأت فعلاً على صعيد ردود الفعل والروايات المتناقضة حول ما يحدث. حتى الآن لا توجد روايات منسوبة إلى جهة مستقلة ذات صدقية؛ وما عدا ذلك هناك سيل من الأخبار التي تتراوح بين ارتكاب الكتائب المهاجمة مجازر جماعية وبين عمليات انتحار جماعية لجأ إليها بعض السكان خوفاً من الانتقام الآتي. والأكيد أن المهاجمين أسروا عدداً من المدنيين في قرى بلوطة وكفرية وعرامو؛ المؤيدون يقولون إنهم يُستخدمون كدروع بشرية، لتجنب القصف الجوي الذي تلجأ إليه قوات النظام عادة إثر خسارتها لمناطق العمليات، بينما أشار ناشط إعلامي مرافق للقوات المهاجمة إلى أن الأسْر تم لمقايضتهم بأسرى في سجون النظام. على بعض صفحات التواصل الاجتماعي نُشرت صورة لمقاتل يدعى «الشيخ قحطان»، قيل إن عينيه دمعتا عندما طلبت منه طفلة أن يطلق النار على رأسها لتموت فوراً إن كانت هناك نية لقتلها، فاحتضنها وحملها إلى السيارة التي تحمل الأسرى الباقين؛ حسبما تروي صفحات محسوبة على المعارضة! هيئة التنسيق الوطنية «فرع المهجر» سارعت إلى إدانة الهجوم، بينما باركه «الائتلاف الوطني». هذا ليس الانقسام الوحيد في صفوف المعارضين إزاء المعركة، فقد عمّت سريعاً حملات الاتهامات المتبادلة، بخاصة بين أولئك الذين يتحدّرون من المناطق المستهدفة وأبناء المناطق الأخرى. وما عدا أولئك الذين يعارضون بالمطلق عسكرة الثورة، والذين علت أصواتهم أكثر من قبل، برزت الخلافات التي لم تظهر سابقاً مع المعارك الأخرى، وظهرت إلى العلن المكبوتات الطائفية لدى بعضهم، وكالمعتاد أيضاً تمت التغطية على قسم منها بذرائع عمومية. ولكي لا يحتل التأويل الطائفي كل المساحة لا بد من الإشارة إلى أن استشعار الخطر الشخصي كان له أثر على توجهات بعض المعارضين في مناطق أخرى، فليس جديداً أن ينتقد معارضون دخول المقاتلين إلى المناطق السكنية، لأنها ستكون عرضة لانتقام النظام، ومن البديهي أن يتضاعف الخوف إذا اقترن بالرعب من الانتقام العشوائي على خلفية طائفية. هذا الخوف ليس قابلاً للتبديد مع المناشدات أو بيانات التطمين، بما أن كل ما يقال وما لا يصرح به عن معركة الساحل يعزز منه. ولعل تلك الرواية، إن صحت، عن الطفلة التي تطالب بالقتل الرحيم تمثّل الواقع الحقيقي بلا تزويق؛ لا يقلل من دلالتها أن تكون الرواية ملفقة. أما الروايات عن قتل رجال عائلاتهم، ومن ثم قتل أنفسهم تحسباً للانتقام، فهي تعيد إلى الأذهان ما حدث في مجزرة عقرب أواخر العام الماضي، حين قتل الشبيحة النساء والأطفال خشية تعرضهم للأسر أو التنكيل. يجادل بعض المعارضين بأن استهداف النظام ينبغي أن يكون في دمشق، وبصرف النظر عن كونهم هلّلوا سابقاً لتحرير مناطق أكثر بعداً من الساحل السوري عن العاصمة فإن كل الذرائع لا تبدو كافية لاستبعاد استحقاقات الحرب المتسعة باضطراد، بل إن المواقف التي تهوّل من خصوصية معارك الساحل تساهم في زيادة المخاوف التي كان النظام أول من بثّها في صفوف مواليه. ومن ناحية أخرى يبدو الإلحاح على خصوصية كل منطقة مدخلاً إلى التقسيم على الصعيدين النفسي والواقعي، وما لم تكن هناك إرادة دولية للتقسيم، لن يكون الحديث عن الخصوصيات سوى مدخل إلى مزيد من الاحترابات. اللوحة قاتمة، وحتى إن تبين لأبناء المناطق الموالية عجز النظام عن حمايتهم فلن يدفعهم ذلك للتخلي عنه، لأن الشعور السائد أخيراً هو أنهم يدافعون أولاً عن أنفسهم وعن مناطقهم. الشبيحة هناك ليسوا معزولين عموماً، على رغم تسببهم في الخوف المتعاظم من الانتقام، لأنهم من جهة أخرى القوة الوحيدة الجاهزة للقتال. النظام غير قادر مستقبلاً على حماية الحلقة الضيقة من مؤيديه، والمعارضة لم تنجح في حماية المناطق الأخرى المحررة لتحمل عبء المناطق الموالية. الحل يبدو سهلاً على مستوى الافتراضات النظرية التي يعوّل بعضها على سلوك أخلاقي عالٍ من كتائب المعارضة، ويحلم بعضها الآخر بانتفاضة «علوية» طال انتظارها، ولكن إذا نظرنا إلى المعركة الحالية كبروفة للمعركة الأكبر، فهذا على الأقل سيجنبنا مزيداً من الأوهام.