لم تحظ معركة في العراق وسورية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») من الاهتمام السياسي والإعلامي بما حظيت به معركة عين العرب (كوباني) التي خاضتها قوات حماية الشعب الكردية المدافعة عن المدينة بالتعاون مع بعض كتائب «الجيش الحر». من المفهوم ألا تحظى غالبية المدن التي اجتاحتها «داعش» بالاهتمام السياسي والإعلامي ذاته الذي حظيت به عين العرب، وذلك بسبب غياب أي مقاومة شعبية ل «داعش» فيها، بل على العكس تم احتضانها في بعض هذه المدن، وتزويدها عناصر القوة من مقاتلين، والكثير من اللوازم اللوجستية الضرورية. في عين العرب ثلة من المقاومين المدافعين عن المدينة (بصورة بطولية بلا شك) استنهضت كل هذا الاهتمام الدولي، ما يطرح جملة من الأسئلة حول المصالح الواقفة وراءه. من هذه الأسئلة المثيرة للانتباه ما يتعلق بتصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري مبرراً تدخل بلاده في عين العرب لنصرة الأكراد، أن «الاعتبارات الأخلاقية» لا تسمح لأميركا بالوقوف موقف المتفرج على ما يجري في كوباني. لكن هذا القول لم يكن مقنعاً لأحد الخبراء الاستراتيجيين الأميركين، بل أثار لديه نوعاً من السخرية في مقابلة على إحدى الشاشات التلفزيونية العربية عندما قال: متى كانت الاعتبارات الأخلاقية تؤسس السياسة الدولية لأميركا أو لغيرها؟ وأين كانت هذه الاعتبارات عندما دمر النظام السوري مدناً بكاملها؟ إنها المصالح فحسب. لكنه من جهة أخرى عزا تدخل أميركا، جزئياً على الأقل، إلى الضغط الذي أخذت تمارسه اللوبيات «الكردية والأشورية واليهودية والمسيحية» وغيرها في واشنطن على الإدارة الأميركية. ومن الواضح أن هذه تتعامل بتعاطف واضح مع الكرد، سواء في العراق أو في سورية، ربما لأسباب إستراتيجية بعيدة غير ملحوظة الآن، مع ذلك من مصلحة أميركا الاستفادة من معركة كوباني لقتل أكبر عدد ممكن من مقاتلي «داعش» كجزء من مهمات حلفها الدولي. وكان لافتاً الاهتمام التركي بما يدور في عين العرب، وهذا مفهوم كون المعارك فيها تجرى قرب حدود تركيا. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن أنقرة تخشى انعكاس ذلك على الداخل التركي (وقد بدأ الانعكاس بالفعل). من جهة ثالثة، تعد القضية الكردية في تركيا وامتدادها في سورية أكبر قضية تشغل اهتمام السياسيين الأتراك، وقد كلفت تركيا، حتى اليوم، عشرات الآلاف من الضحايا وخسائر مادية كبيرة. وتخشى تركيا فعلاً أن تنهار الحلول التي توصلت إليها مع قيادة حزب العمال الكردستاني التركي نتيجة أحداث عين العرب، ذلك أن زعبم الحزب عبدالله أوجلان هدّد من معتقله بالانسحاب من التفاهمات التي وقّعها مع حكومة رجب طيب أردوغان لحل القضية الكردية في تركيا، والطلب من المقاتلين الأكراد العودة من جبال قنديز في العراق إلى الداخل التركي في حال سقوط كوباني في يد «داعش». إضافة إلى ذلك، تسببت أحداث عين العرب بحصول لغط ديبلوماسي بين كل من فرنسا وأميركا من جهة وتركيا من جهة أخرى، على خلفية مطالبتهما تركيا بتقديم الدعم الى المقاتلين الأكراد في عين العرب والسماح للمقاتلين الأكراد بالدخول إلى المدينة عبر حدودها. ومع أن تركيا تعد المقاتلين الأكراد في سورية إرهابيين، فإن ذلك لم يمنع من دعوة محمد صالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديموقراطي في سورية إلى اسطنبول في محاولة للاستفادة من أحداث كوباني لإملاء بعض الشروط عليه، وخصوصاً شرط حل الإدارة الذاتية الديموقراطية التي أنشأها أكراد سورية في مناطق وجودهم في شمال سورية وشمال شرقي سورية، لأنها تخشى فعلاً تأثير هذه الإدارة، كنموذج في الحكم، في الأكراد في تركيا لما تتمتع به من إغواء الاستلهام. لكن صالح مسلم رفض الشروط التركية، كما رفض السماح لمقاتلي الجيش الحر بقيادة العقيد عبدالجبار العكيدي بالدخول على رأس قوة من 1300 مقاتل إلى عين العرب خشية استغلال تركيا لهذه القوة في الضغط لاحقاً على الأكراد السوريين لتحقيق مطالب تركية كانوا رفضوها. وسمحت في الوقت ذاته لمقاتلين أكراد من البشمركة الكردية العراقية بالدخول عبر أراضيها لنصرة أكراد كوباني، ما تسبب بلغط قانوني في العراق، ومعارضة رسمية سورية خجولة، وتحفظ قوات حماية الشعب وقيادة حزب الاتحاد الديموقراطي عن ذلك. تركيا بلا شك ليست لها مصلحة في سقوط عين العرب بيد «داعش»، لكن لها مصلحة في استمرار القتال فيها، على اعتبار أن من يُقتل سواء من «داعش» أو من الأكراد هم إرهابيون من وجهة نظر تركيا، ولذلك فهي تراقب الوضع الميداني عن كثب، وقد حشدت قوات تركية كبيرة في الجهة المقابلة لعين العرب جاهزة للتدخل، في الوقت المناسب. المستفيد الأكبر ويبقى المستفيد الأكبر من ظهور «داعش»، وخصوصاً مما يجري في عين العرب هو النظام السوري. فقد أزاحت المعارك المستمرة فيها الضوء الإعلامي عنه نسبياً، ما غطى على ما يقوم به من هجوم واسع على مناطق عدة في سورية، سواء في الغوطة الشرقية، أو في ريف حماه، أو في شمال حلب، وصولاً إلى دير الزور، والريف الشمالي الشرقي لمدينة اللاذقية، وتحقيقه منجزات ملموسة على الأرض. ومع أن جميع الأطراف الرئيسة المعنية مباشرة بمحاربة «داعش»، وخصوصاً بما يجري في عين العرب، ليست لها مصلحة في سقوط المدينة بيد التنظيم، فإن لديها هواجس كثيرة بسببها. ففي العراق بدأت بعض أطراف الحكم تتوجس من تدفق السلاح على شمال البلاد، وكذلك من تدريب قوات البشمركة الكردية. وفي تركيا ثمة هواجس واضحة من أن يُسجل الانتصار المحتمل في عين العرب باسم الأكراد وحدهم من دون مشاركة قوات من «الجيش الحر» الموالية لها، أو من دون مشاركة البشمركة العراقية، لما سيشكله ذلك من تحفيز لأكراد تركيا. النظام السوري بدوره لديه هواجس كثيرة بعضها صار واقعاً، مع تزايد الانتقاد له ولقواته التي لم تستطع الصمود في مطار الطبقة أو في الفرقة 17 أو في اللواء 93 في حين أن بضع مئات من المقاتلين غير المجهزين تجهيزاً كافياً صمدوا في عين العرب، وثمة احتمال كبير لانتصارهم على «داعش». وهناك هواجس لدى السوريين من موالين ومعارضين من تنامي النزعة الانفصالية لدى الأكراد السوريين، نتيجة تنامي شعورهم بخصوصيتهم القومية المحصّن بالقوة. لدى أميركا هواجس أيضاً من أن المعركة ضد «داعش» ستطول أكثر مما خططت له، وثمة خشية لديها من حصول فوضى شاملة في منطقة الشرق الأوسط، قد تؤثر سلباً في مصالحها الإستراتيجية فيها. * كاتب سوري