تخترق رنّة العود زحام مدينة صيدا في مساء رمضاني. السوق المكتظ بالزائرين مؤشّر مرحلي إلى عودة جزء من الحياة الى طبيعتها، لكن الأمسيات الثقافية التي أرادها عدد من الناشطين الاجتماعيين في عاصمة جنوب لبنان، كان وقعها أكبر، فقد قلبت شكل المدينة الخارجة للتوّ من اشتباكات مسلحة، وغيّرت معالمها. هنا، في محترف «شرقي» وسط السوق القديم، تعبير عن الانتماء الى ثقافة الحياة، ورفض للشقاق المذهبي الذي لوّن صيدا عقب حربها الأخيرة. تعم الموسيقى أرجاء المكان، وتنسجم مع مادة ثقافية وفنية اقتصرت في صيدا على مطاعمها وأمسياتها الفنية ليالي العطلة. لا ينقطع العزف طوال السهرة، ويرافق قراءة قصائد شعرية باللهجة المحكية، كما يواكب قصصاً يرويها الحكواتي. الفنان وليد سعد الدين تبنّى هذا الدور. يروي كل ساعة، حكاية قصيرة تحمل مضامين وطنية. حكايتا «الزير سالم» و»عنترة ابن شداد»، ليستا حكايتين تاريخيتين صرفتين. يسقطها على الواقع، فتتماهى مع تطلعات ابناء صيدا لوفاق وطني وسلام داخل المدينة. يجول سعد الدين بلباس فولكلوري بين الساهرين، حاملاً «مايكروفون» لنقل حكايته الى مسامع الجميع. وبلباسه، يدشن عهداً جديداً في المدينة التي افتقدت أمسيات من هذا النوع. ويروي أبناء صيدا أن الحكواتي غاب عنها أكثر من 40 عاماً. كان حضوره قوياً قبل دخول عهد التلفزيون، وانتشار الوسائط الفنية الحديثة. هذه النقطة أحياها المحترف بهدف تعزيز المنحى التراثي للمدينة. ولا يقتصر إحياء التراث على الحكواتي، أو على الغناء الشرقي الذي لا ينقطع. فقد تناغم هذا الواقع مع صورة المحترف المشيّد من أحجار قديمة، وفق نظام البناء الهندسي المعروف ببيوت العقد. يدخل الزائر من ردهة صغيرة تستقبله فيها مشغولات يدوية ومواد تراثية. وفي الداخل غرفة أوسع، وتتوسطها ساحة صغيرة يجول فيها الحكواتي قبالة عازف العود. ومنه، يمكن النفاذ الى السوق التراثية في المدينة الذي يعود تشييده الى مئات السنين. وتتنوع الأمسيات بين الموسيقى الهادئة والغناء الطربي وحكايات الراوي. وجه فني ثقافي مشترك، يضيف إلى المكان حضوراً مختلفاً. يتفاعل الحاضرون مع محيي الأمسيات، عزفاً وطرباً وتصفيقاً، فيما تضفي حميمية المكان جواً من الألفة على الحاضرين. ويمثّل الحاضرون مختلف أطياف الشعب اللبناني، وجعلوا من المكان لقاء دائماً لإعادة الودّ الى السكان. كما يلتقي هؤلاء نجوم التمثيل والشعر والموسيقى المحليين، للتعرف عن كثب اليهم، ويتعرفون جميعاً الى فن بدأ يندثر أمام زحف الموسيقى الغربية، وتسللها الى الأمكنة. ويواظب شعراء ومغنون وممثلون ومخرجون وفنانون تشكيليون على إحياء السهرات في محترف «شرقي»، منذ يوم افتتاحه، وسط تأكيد صاحب الفكرة سعيد باشو أن السهرات ستتواصل حتى بعد انقضاء رمضان، بهدف «اضافة نكهة فنية مضيئة إلى ليالي المدينة». وتأتي المبادرة الآيلة الى تخفيف حدة التوتر والانقسام السياسي، عقب معارك دارت بين الجيش اللبناني وأنصار الشيخ أحمد الأسير في منطقة عبرا. وإثر الاشتباكات، ساد التوتر والخوف والقلق في المدينة المعروفة بتنوعها الطائفي، وكانت مثالاً للعيش المشترك. ويعرّف باشو المكان بأنه «واحد من المراكز الثقافية الداعمة للتراث والفنون». ويتضمن المحترف صالوناً أدبياً أخذ على عاتقه أن «تبقى صيدا عاصمة الثقافة ومنارة المدن على ساحل المتوسط»، مشيراً الى أن المحترف أقيم «بمبادرة فردية ليكون أول من نفض ركام الأحداث الأخيرة في المدينة». وبالفعل، استعاد «شرقي» الواقع في منطقة الشاكرية، وسط السوق الشعبي، دور المدينة الحضاري. وفي رمضان، أقيمت أمسيات تراثية وثقافية عدة استقطبت جمهوراً متنوعاً من مختلف المناطق. ويستعرض الحكواتي قصصاً تبدأ من عام 1920، يوم بدأت المدينة نشاطها التجاري والثقافي والوطني في مواجهة الانتداب الفرنسي. ويعرج على سرد سيَر شخصيات عرفتها المدينة، فضلاً عن رموزها من الصيادين ومواقعها الأثرية. ويسعى باشو لدعم الثقافة الشعبية وتراث المدينة، وتعزيز وجهها الحضري الفني، وتكريس فكرة تنوّعها. وهو مشروع لا يبغى الربح، يساهم في دعم المؤسسات الأهلية والحرفية والتراثية من خلال عرض منتجاتها.