لم تنجح دموع إرينا التي سالت بغزارة أمام عدسات المصور التلفزيوني، في إقناع رجال الشرطة وناشطين رافقوهم بعدم انتزاع طفلها أليكسي، ابن السنوات الخمس. أقسمت إيرينا (38 سنة)، المقيمة في بلدة صغيرة لا تبعد كثيراً عن مدينة يكاتيرنبورغ عاصمة إقليم الأورال الروسي، انها لم تفعل ما يستوجب «القرار الجائر»، لكن عناصر الشرطة المسلحين بقرار قضائي نفذوا مهتمهم ورحلوا. سيكون على أليكسي ان يقضي أياماً صعبة في الملجأ، قد تطول إذا لم تقبل المحكمة قرار الاستئناف الذي قالت إرينا انها ستقدمه. هذا «في حال صدقت في عزمها»، كما أشار اليه جارها الذي رجّح ان تغرق السيدة مجدداً في إدمانها وقد «تنسى» طفلها وقتاً طويلاً، أو على الأقل ستكون عاجزة على تدبير مبلغ محترم مطلوب للمحامين من أجل متابعة قضيتها. إرينا، أو بالأصح أليكسي، ضحية من مئات آلاف الضحايا في روسيا الذين يدفعون سنوياً ثمن إدمان على الكحول والمخدرات في العائلة. ويستبعد ان تكسب السيدة الروسية تعاطفاً، على رغم الدموع الغزيرة التي سالت، وعلى رغم ان قصتها انتشرت عبر وسائل الإعلام وغدت نموذجاً لقصة الإدمان في روسيا. وكانت المحكمة أصدرت قراراً بحرمانها من الحضانة بعد تكرار الشكاوى ضدها من جيرانها بمواصلة الإدمان على الكحول وإهمال طفلها. وعندما وصل رجال الشرطة إلى منزلها، كان المشهد كارثياً، إذ لم يجدوا في البيت أي شيء يؤكل، وحال الفوضى عارمة، والقذارة تسيطر على كل شبر فيه. وشهد بعض الجيران أنهم كانوا يمدون الطفل في أوقات كثيرة ببعض الحليب والخبز. أما ارينا فكانت تغيب أوقاتاً طويلة... لتعود بعدها ثملة. واعتادت ان تطلب قروضاً صغيرة من جيرانها... من دون أن تكون لها وظيفة أو دخل محدّد. واللافت انه على رغم ان حالها كانت معروفة للقاصي والداني، فإن الشرطة لم تعرف الطريق إليها قبل انطلاق حملة نظمها ناشطون حملت اسم «أسرة» ووضعت على رأس أهدافها مساعدة الأطفال في الأسر التي تعاني من هذه الآفة. بقية القصة كانت تقليدية، إذ رفعت الحملة شكوى قضائية تطالب بحرمان إرينا من حق الحضانة، ونفذت الشرطة بعد ذلك القرار القضائي. يقول ناشطو الحملة إنهم نجحوا خلال شهور في إنقاذ عشرات الأطفال من أوضاع مماثلة. وبحسب دراسات أعدتها مراكز بحوث، فإن مشكلة الإدمان على الكحول أو المخدرات تهز بقوة جدران نحو ربع العائلات في روسيا. وعلى رغم كل التدابير التي فرضتها الحكومة خلال العامين الأخيرين لتقليص هذه الظاهرة، مثل تحديد أوقات بيع المشروبات الكحولية وزيادة أسعارها أضعافاً، فإن المشكلة لم تتراجع بل زادت أخطارها لأن الفقراء باتوا يلجأون إلى تعاطي أنواع رخيصة من المسكرات تزيد المشكلة بسبب مضاعفاتها الصحية الخطرة. أما الجانب الثاني من المشكلة، فهم الأطفال أنفسهم الذين تنتهي مهمة الحملات المماثلة عادة بانتزاعهم من ذويهم وتسليمهم إلى الملاجئ، وقلما يهتم أحد بالبحث عن مصيرهم، كما قالت ل «الحياة» الناشطة الاجتماعية ناتاليا ماسلينا. وأوضحت ماسلينا ان كثيرين من الأطفال يجدون أنفسهم بعد صدور قرار نهائي من جانب القضاء بحرمان ذويهم من الحضانة، أطفالاً بالتبني لعائلات أخرى داخل روسيا أو خارجها. وتصاحب قصص التبني عادة مصائب كثيرة وصلت في بعض الحالات إلى وفاة أطفال متبنين بسبب الإمعان في استخدام العنف ضدهم. أما من كان حظه سعيداً وبقي في الملجأ، فيتعرض لصنوف أخرى من المعاناة، إذ كشفت دراسات أن 80 في المئة من دور الأطفال في روسيا تحصل فيها انتهاكات جسيمة، ناهيك بحاجتها إلى توفير أبسط مقومات الرعاية الصحية والغذائية. وتعد مشكلة الإدمان واحدة من أبرز أسباب تدمير الأسر في روسيا. وبحسب دراسة أعدها مركز دراسات الرأي العام المرموق، فإن 45 من حالات الطلاق في روسيا تحصل بسبب الإدمان على الكحول، فيما 31 في المئة من الحالات تحصل بسبب الإدمان على تعاطي المخدرات. وفاجأت نتائج الدراسة كثيراً من الأوساط، إذ دلت إلى أن المجتمع الروسي ما زال ميالاً إلى المحافظة في المسائل التي تتعلق بالأسرة. وهكذا فإن السبب الرئيس للطلاق في روسيا هو الخيانة الزوجية بنسبة تزيد على 52 في المئة. ومع مصيبة الأدمان، يأتي العنف في الأسرة بين الأسباب الأساسية لانهيار الزيجات بنسبة تصل إلى 38 في المئة، يلي ذلك بالترتيب سوء التعامل مع الأطفال (28 في المئة)، والغيرة الزائدة (25 في المئة)، والبخل (22 في المئة). أما مفاجأة الدراسة، فكانت في نسبة الأسر التي تموت سنوياً بسبب الفقر، أي ضعف الإمكانات المالية، وهي لا تزيد على 17 في المئة في بلد يعاني نحو ثلثه من تدهور الأحوال المعيشية. وعلى رغم ان كل المصائب التي تهدد العائلة يمكن ان يكون لها حلول، كما تقول ماسلينا، عبر برامج توعوية أو مساعدات في أشكال مختلفة تقدمها الحكومة والهيئات الاجتماعية، فإن مشكلة الإدمان تبقى بلا حل لأن كل البرامج التي نفذت حتى الآن أثبتت فشلها في مواجهتها. حتى الحملات التطوعية التي بدأت تنشط كثيراً، مثل حملة «أسرة» وحملة أخرى حملت عنوان «مدينة بلا مخدرات» وعشرات غيرها، لم تتمكن كما قالت الخبيرة من مواجهة المشكلة ذاتها، بل وضعت حلولاً موقتة لأوضاع الأطفال في الأسر المصابة بهذه المشكلة من دون ان تجد آليات لمستقبل أفضل لهم.