هائماً على دراجته في شوارع العاصمة باريس، يحاول المخرج الفرنسي أكسل سيلفاتوري سانز استحضار ما عايشه وصديقه الشهيد حين التقاه في مخيم اليرموك في دمشق ما قبل الثورة. بعد عرضه مرّات عدّة، وضمن مهرجانات واحتفاليات سينمائية مختلفة، استقرّ فيلم سيلفاتوري وعنوانه «عزيزي حسان» أمس في «مهرجان أبو ظبي السينمائي». إثر تلقيه يومها خبر استشهاد حسان، حار أكسل، عدا الحزن، في كيفية الإفصاح عمّا شعر به نتيجة فقدان صديقه، إلى أن استفزه صحافي بالقول - وفق ما أعلن المخرج -: «ربما كان حريا بك القيام بشيء ما عندما كان صديقك في السجن...». حمل آلة التصوير، ركب دراجته، وبغير هدف، جال شوارع العاصمة باريس. أسعفه مطر خفيف لإخفاء دموعه تلك الليلة. في فيلمه التسجيلي القصير (حوالى أربع دقائق - 2014)، وبأدوات تقنية بسيطة، لم يكتفِ المخرج بالبديهيات الكلاسيكية، كالتكثيف والإيجاز، التي تفرضها صناعة الأفلام القصيرة، فاعتمد أداة تعبيرية مباشرة عبر استخدام التعليق، كتابةً، بالتزامن مع عرض المشاهد. بين ال «هنا» وال «هناك».. يفتتح الفيلم مشاهده «هنا»: الكاميرا محمولة على دراجة في أحد شوارع باريس في ليلة ماطرة. قبل أن ينتقل إلى «هناك»؛ مخيم اليرموك (جنوب العاصمة دمشق): حائط غرفة يعج بالصور، تستقر آلة التصوير عند إحداها؛ صورة للشخصية التي يتمحور حولها الفيلم، صديق المخرج، حسان حسان، والذي قضى تحت التعذيب في أحد الأفرع الأمنية للنظام السوري. يتوالى هذا التناوب الصوري، السريع نسبياً، فيظهر حسّان تارةً برفقة بعض الأصدقاء، وأخرى مع زوجته وعد. إلا أنّ مشهداً رمزياً يسبر عمق التناقض المكاني والزماني الحادين، سيحتم على المُشاهد إعادة النظر في تراتبية ال «هنا/هناك». فبينما تتابع الكاميرا - الدرّاجة، وبحريّة تامة، دورانها الذي يبدو لا نهائياً في شوارع العاصمة، يقابل ذلك مشهد سريع لأحد شوارع المخيم، المزدحم آنذاك، فيما يبدو أنّ التقاطه قد تمّ خلسة نتيجة الحظر من قبل نظام دمشق. ترافق المشاهد في مقدمة الشاشة، طيلة الفيلم، رسالة المخرج إلى صديقه: «عزيزي حسّان: دوري لأكتب لك..»، ما قد يبدو لبعضهم، للوهلة الأولى، تعديّاً على حق المشاهد في استثارة مخياله، إلا أنّ آخراً قد يجد فيها حيلة ذكية لإشراك العام: المُشاهد، بما هو خاص: مضمون الرسالة (مونولوغ الكاتب). وإنّ نجح المخرج الشاب بإضفاء بعض الرمزية، بحيث أرّخ الرسالة في الخامس عشر من آذار (مارس) 2014، التاريخ الذي يشكل ذكرى اندلاع الحراك الثوري في سورية 2011. إلا أنّه في موضع آخر، كالتوقف عن الكتابة تزامناً مع الوقوف عند إشارة سير حمراء، يبدو أنّه قد أوقع الفيلم في فخ التصنع. وبجمل قصيرة متقطعة، تتماهى نسبياً مع الحركة التائهة للدراجة، يُذكّر المخرج صديقه المُغيّب، والمُشاهد على السواء، ببدايات العلاقة التي ربطتهما، وعن زيارته الأخيرة سورية،2011، والتي انتهت قسراً: «قبيل بضعة أشهر من شروع النظام إمطار المخيم بالقنابل حيث تعيش...». ولا يخفي أكسل شعوره بالعجز حيال الأمر: «مضت ثلاث سنوات من دون أن يتغيّر شيء في سورية؛ هناك مزيد من الضحايا كل يوم، ماذا بوسعي أن أفعل؟!». اختتم رسالته بالتساؤل: «من يعلم حقاً عن النظام السوري؟!». من هنا بدأت الحكاية... يصل أكسل إلى سوريا عام 2006، يقيم في مخيم اليرموك، ويلتقي هناك مجموعة من الشباب يكون من بينهم الشهيد المسرحي حسان حسان. العلاقة التي ستتوَّج لاحقاً في عمل («شباب اليرموك» 2012 - سبعون دقيقة تقريباً). العمل الذي بدأ العمل عليه صيف 2009 واستمر قرابة العامين، تمّ عرضه في أكثر من مئة مناسبة، آخرها قبل أيام في منتدى التصوير- باريس، حصل خلالها على تسع جوائز ورُشح لأكثر من خمسين أخرى. حسان، وعد، تسنيم، علاء، سامر وآخرون، في آواخر العشرينات من أعمارهم (الجيل الثالث للنكبة الفلسطينية)، احتضنتهم غرفة على أحد سطوح عشوائيات اليرموك، وشتّتتهم أحلامهم بالسفر والخلاص من واقعهم المعيشي الرديء، وعادت دور العرض لتجمعهم في شاشة واحدة. إلا أنّ أحداً منهم، لا المخرج أو الشباب، خطر في باله أنّ الأشهر الأخيرة للتصوير، سوف تكون شاهدة على التظاهرات الأولى المطالبة بإسقاط النظام في سورية. وعلاوةً على هذا، فإنّ العروض الأولية للفيلم تزامنت مع وصول أعمال القصف والتدمير إلى منطقة المخيم، حاله حال معظم المناطق السورية، ما آلَ بسكانه إلى مصائر كارثية من قتل واعتقالات ولجوء، تلاها حصار خانق أودى بحياة العشرات جوعاً، ما أعاد إلى الأذهان صور نكبة العام 1948، مع فارق أنّ الراهن يُحاك بيد من يفترض به شقيقاً (يطول الحديث في هذا). كل هذا وذاك، أكسب الشريط زخماً واهتماماً استثنائيين، وأحالهُ مستنداً مهماً يشهد على مرحلة مفصلية لحياة عشرات الآلاف من الأشخاص، ومكان عُمّدت نهايته بالغدر والنار. في المراحل الأخيرة، ونظراً إلى تعذر وصول المخرج الفرنسي إلى دمشق لإنهاء الفيلم، حيث أنّ أي تواجد أجنبي هناك له حساباته الخاصة من النظام، بالمحصّلة، سيترك أكسل الكاميرا للشباب، وسيحضر من خلال رسائل كان قد طلب منهم كتابتها (توجز علاقتهم بالمخيم والمآلات التي وصلوا إليها). فيقرأ كل منهم رسالته، بالعربية الفصحى، في مشاهد هي أقرب إلى المونودراما المسرحية منها إلى الكادر السينمائي. إثر «شباب اليرموك»، بالحيرة، الإحباط، الوداعات القسرية، وبالآمال والأحلام أيضاً، سار شخوص الفيلم كل إلى حكايته الخاصة، لجوء آخر، جوّا وبرّاً وبحراً، إلا أن الشهيد حسان حسان لن ينال هذا (الترف)، وهو الذي بدا متشبثاً بالمخيم، كما عبّر خلال الفيلم أكثر من مرّة، فكان «عزيزي حسان».