إذا كانت أعمال «المختارات»، شعرية أم نثرية، تحتكم في العادة الى معايير منهجية واضحة ومحددة، فإن كتاب عبد الرضا علي «محمود البريكان كاتم أصوات الكلمات: مختارات شعرية» (شرق غرب للنشر، بغداد، بيروت، 2009) يفتقر الى مثل هذه المنهجية، ليس فقط في عدم الإشارة إليها كطريقة متبعة في مثل هذه الأعمال، وإنما أيضاً في طبيعة «المختارات الشعرية» ذاتها التي اختارها بأسلوب أقرب الى العشوائية والارتجال منه الى المعايير النقدية الواضحة - التي افتقدتها مقدمته لهذه المختارات، هي الأُخرى. فالمقدمة التي تبدأ مما هو أقرب الى «الإثارة الصحافية» وتتخذ المنحى الصحافي في ما تسرد من «وقائع» لا تخص العملية الإبداعية من قريب او بعيد، هي مقدمة فقيرة، وعلى قدّر كبير من الهشاشة، من ناحيتين: منهجية تحدّد آفاق قراءته الشاعر في منجزه الشعري، وترسم حدوداً واضحة لتجربته بوجه عام، ولما تبتغي هذه «المختارات» أن تقدمه الى قارئها، أو تؤكده من منظور نقدي لعمل الشاعر، ومن تصورات حافة بهذا العمل، تأسيساً على حس نقدي متبلور رؤية ومنهجاً، وبما يكشف عن الطرائق المتبعة لدى الناقد في القراءة والاختيار... ونقدية، في افتقارها الى تعيين ما لشعر الشاعر من خصائص فنية وموضوعية، لا بتلك الإشارات الإنشائية التي تصف ولا تحلل، وتشير مجرد إشارة ولا تتعمق في مسار الشاعر وقصيدته ما بين البداية (التي كانت مع البدايات الأولى للرواد) وانتهاء بآخر اعماله التي نشر منها ما يكاد يشكل ديواناً متوسط الحجم في مجلة «الأقلام» آخر تسعينات القرن العشرين. فضلاً عن قصائد أخرى نشرها قبل ذلك في مجلتي «الأقلام» و«آفاق عربية». من هنا تبدو هذه «المختارات» في الاختيار الشعري والقراءة النقدية، مبتورة عن سياقات التطور الشعري للشاعر، وعن آفاق تكوينه تجربة ورؤيا. فلا هي قدمت الشاعر نقدياً في حجمه الحقيقي، ولا حققت صورته الشعرية في اكتمال ملامحها. وبذلك حاصرته مرتين: مرة بلغة طغى عليها التعميم والتركيز على أمور هي من قبيل الثانوية، أو الهامشية، بالنسبة الى مقدمة في مثل هذا الموقع، بما سادها من تبسيط في النظرة والأحكام، وبتلك الاجتزاءات التي لم تخضع لمنهج في الرؤية وبناء التصّور، ولكنه أخضع لها القصائد المختارة من تراث الشاعر، فبدا فيها أقرب الى العفوية والارتجال منه الى إحكام المنهج في الاختيار. وإذا تجاوزنا الصفحات الثلاث الأول من المقدمة (التي لم تتضمن شيئاً يخص العملية الشعرية ولا في تحديد طبيعة المختارات) نجد بقية الصفحات توزعت على طرفين: الأول هو الكلام العام في التجربة الشعرية للشاعر، وإقحام بعض مصطلحات النقد الحديث على بعض القصائد، بما لا يكشف عن أية خصوصية، فنية أو موضوعية، في القصائد محلّ القراءة. أما الطرف الثاني فيتمثل في إغراق قصائد الشاعر بما يعد من الأمور الخارجية في العملية الإبداعية، والإسهاب في تنظيرات لم يتعدّ فيها نطاق الثقافة البسيطة، أو التبسيطية، وخصوصاً في ما استعرض من أفكار ومصطلحات نسبت قصيدة الشاعر إليها. فهو (أي الشاعر) كما يراه، يختار «التقنية المناسبة للدخول الى موضوع القصيدة، وجعل القارئ يعيش مناخ الرؤية المرتبطة بلقائي المكان والزمان بكل أبعادها التصويرية». (ص11) ويشير الى ان الشاعر في قصيدته هذه قد عمد «الى تقنية الراوي الموضوعي الذي يعرف ما لا يعرفه الآخرون». (ص 12)، مؤكداً، في السياق ذاته، أن هذه الخاصية «من أغنى المنجزات الجمالية التي استعارها الشعر من فن القصة...» (ص13). هذا فضلاً عن إشارته الى أن الشاعر - موضوع القراءة والتقديم - أفاد في خطابه الشعري» من المتخيّل السردي أو ما سمي ب «تيار الوعي» في القصة الحديثة». (ص14). وإذا ما جاء، في مقدمته هذه، الى ما دعاه ب «المنحى الفلسفي» في شعر الشاعر، ذهب الى القول بأنه لم يذعن «للجام الواقع، لأن محنته الكونية التي كان يعيشها تدفعه باستمرار الى محاولة التخطي، والتجاوز، والخلق» (ص17). أما «موسيقى شعره» فقد ذهب في كلامه فيها الى أمور شكلية ليست من جوهر قصيدة البريكان. ومع أنه في مقدمته هذه اعتمد أكثر من مرجع أحال إليه، أو أخذ عنه، فإنه لم يُشر حتى مجرد إشارة الى كتاب الشاعر والناقد عبد الرحمن طهمازي «محمود البريكان، دراسة ومختارات» الصادر عن دار الآداب عام 1989، وهو كان أول عمل ينشر للشاعر في حياته، يجمع ما كان الشاعر قد نشره في مرحلته الشعرية الأولى الممتدة بين الخمسينات والستينات، فضلاً عن المقدمة - الدراسة التي قدم فيها قراءة معمقة للتجربة الشعرية للشاعر، متناولاً قضايا فنية وموضوعية في قصيدته... الأمر الذي يبعث على التساؤل عما إذا كان هذا التجاهل (أو الجهل) بهذا العمل الأساس والمهم بالنسبة للشاعر وشعره هو للتغطية عمّا إستلّه (في مختاراته) من تلك المختارات التي لم يضف إليها إلا القليل، وعلى نحو غير مدروس، مما نشره الشاعر من بعد صدور ذلك الكتاب. ومن هنا فهو، بسلبياته هذه وحجمه الصغير، قطعاً وصفحات، كتاب لا يقدم الشاعر، على أهميته الشعرية، في صورته الحقيقية، لا «دراسة» ولا «مختارات». إنه عمل متعجل، مضطرب، هامشي، أكثر من كونه عملاً أدبياً أو نقدياً.