أراقبكِ من بعيد وأبحث عن شجاعة، فلا أجد غير خفافيش الخوف تتخابط في بطني. رأيتكِ أول مرة وأنا معتل، أحيا على أدوية، وأراكِ الآن تسلكين الدرب أمام المتجر فأريد أن أخرج من الباب وأنتصب على الرصيف كي تبصري بعينيك أنني غير مريض... وأهمّ بالنهوض غير أن جسدي لا يطاوع جهازي العصبي، وأظل ثابتاً هكذا، كفزاعة حقل، تحط عليّ غربان وتنقر جلد وجهي المشدود على عظم جمجمتي. لم يفدني الشعر شيئاً، وما قرأت ذهب هباء وقبض الريح، لأنني أبحث عني ولا أجدني، تعبرين بلا لفتة نحوي، لم تري لي ظلاً ولا بدناً، أدركتُ في إلهام خاطف أنني غير موجود. تقفز من بين أسناني صرخات بكماء ويخفق هواء في المكان المكعب، لكن الزجاج السميك يفصل متجري عن العالم، وأبقى في الداخل، في اعتزالي، وأنتِ في الخارج، وخفقات الحياة تصحبكِ، وأي فارق بيني وبين القتلى! لتنكسر الشمس كثمرة الرمان على فستانك. ***** دخلت عجوز ترافقها دفقة هواء، ورنّ جرس الباب وسمعت صوتاً مبحوحاً يطلب نصف باوند من الاوريغانو. سيأتي يوم وأحكي لكِ عن حياتي: أعيش في مكعبين، أقضي هنا سحابة النهار، وعند المساء يحلّ المساء وأرتقي السلّم الى المكعب فوق المتجر: انه منزلي، وفيه تجمّعت على مرّ السنين أشياء صارت أليفة. أعتني بخالٍ طاعنٍ في السنّ سبقه إبناه الى الجانب الآخر. يمكنني ارساله الى المأوى العام، غير أنني لم أفعل بعد، أتأمله يتناول حساءه بفم يخلو من الأسنان، أكثر من مرة فكرت في الأمر وقطعت تذكرة القطار ومضيت كي أتفقد المكان، قابلت مديرة ملأت دماغي بالطنين وحقيبتي بالكتالوغات، نوافذ مشرفة على حديقة وبحيرة، صور للغرف التي تحوي تلفزيونات ملونة... كنت أغادر سائراً بين الأشجار الخضراء العريضة الأوراق والتي تعلو سامقة حتى تحجب المأوى، وأنا أشعر بهبوط في نفسي وتعب في ساقي وجفاف في حلقي، وما يشبه النار الصغيرة تلتمّ في مؤخرة دماغي، كأن شمعة صغيرة جداً لا تُرى بالعين المجردة ولا بالميكروسكوب، ملونة كتلك الشمعات الرفيعة التي نشعلها من أجل الصغار على قالب الحلوى في أعياد ميلادهم، كأنها تحترق في مؤخرة جمجمتي، تلسعني من الداخل ولو بقيت تلتهب هكذا فستثقب العظم وتخرج الى ضوء الشمس وسيبصر الناس تلك النار النحيلة المستدقة... أعتمد على المطاعم عند الظهيرة، وليلاً أتناول عشاء خفيفاً، خبزاً وجبناً يونانياً، وما يمكن أن أشربه قاعداً الى نافذتي المطلة على الساحة وتصالب الطريقين، وعلى صف المتاجر عند التمثال الرخامي الباقي منذ القرن الماضي... أخبرتني أمي وأنا صغير طريح فراشي، أنه سقط عن قاعدته المرمر أثناء الثورة، ثم جاؤوا من المدينة الكبيرة ومعهم الأدوات المخصوصة والعجلات والحبال المتينة، وأعادوه منتصباً تعبر فوقه سنونوات ابريل... أراقبها عائدة مع تغير المناخ، تخفق في سماء كوبالتية الزرقة، وأفكر فيكِ، أقفل كتابي وأضعه على المنضدة، أشعل سيجارة أخرى وأنظر الى عود الكبريت وهو يحترق... مرات أغادر هذا المكعب بعد أن ينتصف الليل، أنزل السلّم الى الشارع وأسير في الضوء الخافت ل «اللمبات» المعلقة على أبواب الدكاكين... اذا وصلت الى المبنى حيث يوجد منزلك، ولاحت لي أنوار ما زالت مضاءة في الطبقات العليا، يتسارع نبضي وأخشى أن يرجع المرض الى عقلي، مثل دبيب النمل... لذلك أرجع بسرعة من حيث جئت. بدأت الحرارة ترتفع في الفترة الأخيرة، ولئلا أعاني الأرق أتجنب فراشي الى أن يتأخر الوقت: أسهر كبوم الغابات، أرتقي السلّم الى السطح الخالي إلا من الهوائي والصحن الذي نال منه الصدأ. اكتشفت ان نبضات قلبي تنتظم مجدداً، تحت نقاء النجوم، وأنا أعبّ ريح الليل في المكان المرتفع فوق المكعبين اللذين يأسران حياتي. سيأتي يوم وأخبركِ عني: كلما رأيتكِ أهمّ بالقفز والطيران... غير أن رصاص الوحدة أثقل أحشائي. كيف أعبر اليكِ! لست سنونوة أنا... لن أعبر يوماً... لتنكسر شمس اليونان على وجهي... أراقب اعتكار السماء وأرصد أوزّها البرّي... اعبر أيها الطير، اعبر وعلّمني كيف يسعني العبور.