«أغمس ريشتي في تراب الوطن» هكذا يصف الفنان التشكيلي السوري زهير حسيب تجربته الفنية في معرض أقامه أخيراً في مدينة السليمانية (شمال العراق). ويقول ل «الحياة» إن «بشاعة الحرب تكمن في قدرتها على تشويه كل شيء في سورية، من أناس باغتهم الموت إلى الخراب الذي يخلفه القتال الدامي، وانعكاس هذا العنف المهول على فكر الإنسان السوري وفنه». تتصدر معرض حسيب الذي احتضنته مؤسسة «سردم» في السليمانية لوحة لسمراء ترتدي ثوباً فضفاضاً بنظرة ذابلة، وعلى مقربة منها فتاة أخرى بملامح ملائكية ووشاح رأس ملوّن، وفي لوحة أخرى توسع الأم الشابة رحاب عباءتها كخيمة، يجتمع إليها أطفال بأجساد نحيلة عارية، ملامح عديدة تنم في غالبيتها عن شجن يشابه ما يعتمل صدر الفنان نفسه. لكن زهير حسيب يرفض الحديث في السياسة، فهو كما يقول «لا يريد لفنه أن يعبّر إلا عن المعاني الإنسانية التي تعبر الحدود السياسية إلى الأفكار والمشاعر». ويضيف: «العمل الفني يجب أن يُكرَّس لرسالة عالمية ناضجة تحاكي قصص الإنسان وأحاسيسه، وعلى الفنان أن لا ينقاد نحو انفعالات شخصية طارئة، بل يتجاوز غمرة اللحظة إلى جوهر القضية، وبالتالي يؤسس رمزاً مطلقاً للحالة الإنسانية ضمن إطار جمالي غامر». لكن مسحة الحزن الغامرة وقتامة اللون وذهول تعبيرات اللوحات نفسها، تُظهر دلالات لا يمكن تلافيها في هذا المعرض، على الأقل لدى مجموعات كبيرة من المثقفين والفنانين التشكيليين الأكراد الذين احتشدوا في المعرض. وعلى رغم النور يلمح الناظر إلى لوحاته غيوماً متلبدة، وأصاب فاتح المدرس أحد أعلام الثقافة والفن التشكيلي السوري عندما وصف أعماله بأنها «تحمل الكثير من الضياء وروح الظلام». فالأسى يطل أنيقاً عبر ملامح نسوة اختارهن حسيب موضوعاً لأعماله، لكنه يرى أنها تتناول «قيم الأثنى كرمز للحياة بهيئات غامضة وانحناءات جذابة، وملامح متأملة حزينة». السمة الأبرز للمعرض تظهر في مهارات تطعيم اللوحة بالتفاصيل الدقيقة والزخارف المعقدة متوحدةَ في مساحة ذات مناخ لوني متناغم. وخصوصية أسلوب حسيب تبرز في دمجه إرثه الشرقي بلمسات الحداثة والتطوير، وتوفيقه بين المدارس التعبيرية والتجريدية والواقعية بشكل لطيف متكامل، جامعاً في اللوحة الواحدة عناصر عدة كالوجه البشري والرموز التشكيلية مثل السمكة والطاووس والأحرف العربية. ويشرح هنا: «الرموز والخطوط مرجعها مربع الذاكرة الأولى»، أي دخائل الطفولة حيث هيأت له بيئته الريفية السورية تراثاً غنياً عندما كان يرافق الفلاحين إلى الحقول السورية الرحبة. وحسيب السوري الكردي المولود في مدينة الحسكة، يشبّه نفسه ب «شجرة تلوّن نفسها بنفسها بفعل الفصول، في ثورتها المستمرة». ويقول: «عندما أرسم يأتي زهير صغير ويغرقني بكمّ هائل من الرموز والإشارات والألوان والصور، ثم يأتي زهير العارف، المسيطر على أدواته ويأخذ هذه الأشياء ويرصّعها على كامل لوحته بعين المتمرّس». ويضيف: «أحياناً أحذف وأكنس الأشياء الزائدة، وأحياناً أضيف كهدم وبناء، وبناءٍ وهدم حتى تأتيني إشارة التوقف التي لا أدرك مصدرها، هنا تكتمل ولادة اللوحة، فأترك الفرشاة وأنسحب من ساحة الجمال لأقف متأملاً مزهوّاً وكأني أمتلك قبة السماء». مجمل أعمال المعرض مرسومة على القماش ويستخدم فيها الفنان تقنيات ابتكرها أثناء بحثه المستمر في تجربة عدد من الأدوات. فقد اشتغل على القماش والخشب الأنتيك والزجاج والخزف والرمل، واللوحة الواحدة قد تمر بمراحل متعددة وتتكون من طبقات مختلفة.