يعتبر كتاب «الجدل السلبي» لتيودور أدورنو الذي صدر عام 1966 من أهم أعماله الفلسفية. والكتاب مجموعة من المقالات الفلسفية الرصينة التي تعكس اهتماماته المعرفية المتنوعة التي صاغها في حبكة فنية رصينة ونسجها بخيوط غير مرئية، تتداخل في وحدة محكمة. وتأتي صرامة أدورنو من قوة اسلوبه وعدم انتظام افكاره وصعوبة مسكها، فهو لم ينسجم ولم يتنازل ابداً لأي نظام سياسي او اجتماعي. «الجدل السلبي» عمل فلسفي رفيع المستوى عالج فيه موضوع الفرد واستلابه في المجتمع الصناعي والتزم بالانحياز لانقاذ الذات في عالم متسلط منطلقاً من ان نقد «السلبي» هو نقد آيديولوجي يرفض بقوة تسلط العالم الحالي وقمعه. كما يؤكد أدورنو التحطيم الذاتي الذي قام به العقل لمحتوياته منذ كانط، وكذلك على الطريقة التي أدت بهذه الأداة، أي العقل، الى ان تكون مستلبة وعاجزة عن الفهم والادراك والنقد الموضوعي لواقعها،على رغم التطور المادي وارتفاع مستوى رفاهية الفرد وحريته الشكلية وسعيه المتواصل نحو تحقيق ذاته من طريق عقلنة ما يحيط به، وبهذا تحول العقل الى «أداة» موضوعية استغلتها الطبقة الوسطى المسيطرة. كما حلل أدورنو الفكر الفلسفي التنويري وأثره في إخفاق العقل ومن ثم نقده، بدءاً من كانط الذي طور أول مفهوم فلسفي للنقد، حيث كان العقل قبل ذلك في حالة استلاب امام المطلق وفي حالة قمع من قبل اللاهوت وسلطته المهيمنة، ثم هيغل الذي كان أول من طبق الطابع الشكلي الذي قدمه كانط لتحليل التجربة الانسانية وقام بتعميق الطابع الشكلي من اجل اكتشاف حركته وآليته الداخلية التي تجسدت في الجدل في جوهره السلبي لطبيعة الأشياء. واذا اتجه النقد عند كانط للبرهنة على محدودية العقل، توجه النقد عند أدورنو الى الانسان بالذات متأثراً بهيغل في صياغته للجدل بوصفه تعبيراً عن السلب، الذي يتحقق بالعملية الجدلية. يرى أدورنو ان التطور العقلاني الذي انبثق من دور العقل نفسه، يحكمه قانون السيطرة وفق المعادلة التالية: الطبيعة / الانسان و الانسان / الطبيعة. ان هذه السيطرة خلقت وعياً جديداً اطلق عليه أدورنو «الوعي التكنولوجي» الذي جعل من العقل مجرد «آلة» انحرفت عن مسارها الموضوعي وتوجهت الى خدمة مصالحها الخاصة. كما وجه أدورنو نقده في «الجدل السلبي» الى العقل كموضوع ورفعه الى قوة ديناميكية تقوم على قدرة تأويلية اخرى للعقل اطلق عليها «التفكير الثاني»، التي تعبر عن حركة جديدة تعمل ضد العقل، وبفعل عقلاني آخر يفرزه العقل نفسه. وبهذا يتحول العقل نفسه الى رقيب على ديمومة جدلية لاسترداد طاقاته التي سلبها الواقع من دون السقوط في ميدان هيمنة الوعي السائد. ومن الممكن القول إن «الجدل السلبي» هو أهم ما انجزه هذا الفيلسوف طيلة حياته كلها، يعلن فيه ثورته العارمة على العقل الغربي بلا هوادة، الذي خان مبادئه التنويرية او انحرف عنها مما انتج الفاشية والنازية وتخلى بذلك عن الرؤية المتفائلة للتاريخ التي كان يتبناها في البداية ويعتنق رؤية متشائمة تأثر بها بأفكار هايدغر بصورة مباشرة وغير مباشرة وراح يصب جام غضبه على العقل الأداتي - النفعي للحضارة الغربية باعتباره عقلاً شمولياً واسئصالياً. ويبرر بعض مريديه هجومه على الحداثة بسبب تأثير المآسي الموجعة للحرب العالمية الثانية عليه. والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو: لماذا يوجه أدورنو هجومه ضد التنوير والعقل؟ وهل هناك من بديل للعقل؟ واذا نكص عصر التنوير عن تحقيق اهدافه وترك طابعه الجدلي وتحول الى عقل أداتي مهيمن على يد الرأسمالية فإلى أين يقودنا هذا الهجوم على العقل ذاته ومحاولة تدميره؟! الجواب نجده عند هابرماس الذي تجاوز هذا المأزق الذي وقع فيه أدورنو، بسبب فقدانه الثقة بعقل التنوير الذي انتج هذه الحضارة ثم دمرها من خلال حربين عالميتين. يقول هابرماس ان أدورنو اخطأ عندما انغلق على ذاته في رؤيته المتشائمة للتاريخ ولم ير من الحضارة إلا وجهاً واحداً هو افرازاتها العنصرية والشمولية، وأن للعقل الغربي وجهاً آخر غير ذلك، وهو الاكتشافات العلمية والتقنية والفلسفية والحضارية، ولذلك لا ينبغي ان نضحي بفكرة التنوير والانجازات الحضارية لمجرد انها انحرفت عن مسارها الصحيح. وعلى رغم ان الفاشية والنازية هي احداث مفزعة، ولكنها لا تشكل سوى فاصل قصير من المسيرة القصيرة والمملوءة بالانجازات الحضارية العظيمة. ويحذر هابرماس من الهجوم على العقل أكثر مما يجب، لأن ذلك سيكون في صالح القوى الظلامية والفاشية والاصولية، لأنه ليس هناك بديل للعقل سوى العقل. اصطدم أدورنو بالتراث الفلسفي التقليدي الذي سيطرت عليه الانطولوجيا بما استخدمته من أساليب سلبية انتجت كل ما هو وضعي، والذي اصبح «شكلاً سلبياً من السلبي». كما هيأت التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي صاحبت التطور الصناعي الكبير اندماج الوعي الفردي بشبكة العلاقات الإتصالية الموجهة اندماجاً كاملاً حتى اصبح من الممكن الاستغناء عن «نوعية « الفرد من الطبقة الوسطى. كما ان عملية «الجمعنة» الشمولية قادت الى تغيرات عميقة الأثر في البنية النفسية للفرد ما سبب «ضعف الانا» ومحدوديتها، الذي هو نتاج نكوص اجتماعي قسري.