منذ وصول المستشار السابق لدى وكالة الأمن القومي الأميركية ادوارد سنودن إلى مطار «شيريميتوفو» الروسي في 23 حزيران (يونيو) الماضي، انشغل الخبراء ووسائل إعلام بسؤال: هل يغدو ملف المنشق الأميركي الذي كشف برامج تنصت سرية لبلاده في العالم، عنصر خلاف جديد في مسار العلاقات الصعبة بين موسكووواشنطن؟ حينها لم تشر التقديرات الى أن الرجل «سيستوطن» مطار موسكو لأسابيع، وان النقاش في شأن مصيره سيسلك مسارات مختلفة. ولا يخفي خبراء ان مجيء سنودن من هونغ كونغ الى موسكو أربك الكرملين قليلاً، إذ بدا واضحاً أن نشوة «الانتصار الصغير» التي حاولت الصحافة الروسية التركيز عليها تبددت بسرعة. في البداية، كان واضحاً استخدام موسكو ورقة سنودن اعلامياً، باعتبار أنها تمنحها فرصة نادرة للجلوس في مقعد الدفاع عن حقوق الانسان وليس في قفص الاتهام. وركزّت على حقوق «اللاجئ الذي يعتبر نفسه مدافعاً عن حقوق الانسان، ولا بدّ من تأمين رعاية له»، كما صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأكملت قصة سنودن الفصل الثاني من الرواية الروسية الجديدة، بعد «لجوء» الممثل الفرنسي جيرار ديبارديو هرباً من «جحيم الضرائب» الذي يلاحق الناجحين في اوروبا إلى «جنة الأغنياء» الروسية. وكتب معلّق يربط بين الواقعتين: «في روسيا فقط، يجد الناجحون والناقمون على السياسات الخاطئة مكاناً مريحاً لهم». في تلك اللحظة، بدا واضحاً ان موسكو تميل الى منح سنودن اللجوء السياسي. لكن النشوة خبت قليلاً قبل ان تتبدل لهجة روسيا بالكامل، بسبب ضغوط جدية مارستها واشنطن بلغت حدّ التلويح بإلغاء زيارة مقررة للرئيس باراك اوباما إلى موسكو في أيلول (سبتمبر) المقبل. وبدلاً من استخدام وزير الخارجية سيرغي لافروف عبارات غضب لنفي «مزاعم تعامل موسكو استخباراتياً مع سنودن»، حذرت موسكو الأميركي الهارب من العدالة من ضرورة التزامه «آداب الضيافة، إذا رغب في نيل حق اللجوء في روسيا، لا سيما عدم القيام بأي نشاط يضر بعلاقات موسكو مع الشريك الاميركي». ورأى أحد الخبراء أن «هذا الموقف عكس تخوف الأجهزة الروسية من أن تتحول قضية سنودن إلى سابقة خطرة، إذ على رغم عدم توقف حرب التجسس بين البلدين، لم يسبق ان منح طرف حصانة لجاسوس أو منشق يملك معلومات خطرة عن الطرف الآخر». من هنا اعتبر خبراء ان لقاء سنودن ممثلي منظمات حقوقية روسية في المطار الجمعة الماضي، كان هدفه اقناع الأميركيين بأن موسكو تسعى إلى ايجاد تسوية تريحها من مشكلة سنودن، وتفتح باب نقله إلى بلد آخر بلا إحراجات. وتعهد المنشق الأميركي أمام زواره تنفيذ شروط الكرملين، وأفادت الصحافة الروسية بأنه «لم يعد يملك اسراراً، بعدما كشفها كلها قبل ان يصل إلى موسكو». هكذا يغدو طلب اللجوء الموقت الذي قدمه الرجل آخر الحلول المطروحة، لأنه يُريح الكرملين من عناء تقديم تفسيرات إلى الادارة الأميركية ويوفر سبلاً لخروج سنودن من المطار، والبحث عن طريقة لوصوله إلى بلد ثالث ويُغلَق ملفه نهائياً. لكن فترة اللجوء الموقت التي قد تمتد سنة، وفق القوانين الروسية، ستسمح بجني مزيد من الفوائد، إذا احتاج الروس اليها. وعكس ذلك تصريح المحامي الروسي المتطوع أناتولي كوتشيرينا بأن «سنودن لا يخطط لمغادرة روسيا حالياً، وقد يسعى الى نيل جنسيتها». ونفى طلب ضمانات مكتوبة من سنودن بأنه لن يضر بالمصالح الأميركية، تلبية لشرط وضعه بوتين. وبين الارتباك الذي سبّبه وجود سنودن ومحاولة توظيف القضية لتحقيق مكاسب، يبدو بوتين مصمماً على توجيه رسالة واضحة إلى اوباما تفيد بأن موسكو لا تريد اثارة أزمات جديدة تعرقل سبل تحسين العلاقات، فيما «نطبق اسلوبنا في التعامل مع الملفات، لأننا نصرّ على الحفاظ على سياستنا الخارجية مستقلة».