حمل الحدث المصري، بفصوله المتعاقبة منذ 30 يونيو، الكثير من الدلالات السياسية والاجتماعية والإشكاليات ذات الصلة بالقضية الديموقراطية وبدور المؤسسة العسكرية وبالحالة «الإخوانية» وتجربتها الوجيزة في السلطة في أكبر بلد عربي ومتوسّطي. النص التالي يقدّم خمس ملاحظات على هذا الحدث وعلى ما رافقه ويرافقه من ملابسات ومفارقات. الملاحظة الأولى مرتبطة بأبرز التحوّلات التي أحدثتها ثورة يناير 2011 في التعبير السياسي المباشر في مصر، لجهة الاستعداد الجماعي للنزول الدوري إلى الشارع بوصفه مساحة مواطنة وعمل مطلبي وصنع قرار، ولجهة إطلاق الحرّيات العامة وإزالة حواجز الخوف والرقابة. وتبرز في هذا المجال قدرة القوى الشبابية المدينية على المبادرة والتنسيق والدعوة إلى التحرّك بمعزل عن القيادات الحزبية «المحترفة» ومن دون اشتراط التكامل البرنامجي أو الانسجام الفكري لتبرير التلاقي. وفي ذلك ما يظهّر جانباً من جوانب التبدّل في مقاربة العلاقة بالسياسة نتيجة العامل «الجيلي» وقدرة التكيّف والتحرّك السريع للجيل الجديد التي تتيحها الخبرات في «التشبيك» الميداني وفي الإعلام ومواقع التواصل الإلكتروني. الملاحظة الثانية متعلّقة بنهاية تقدير ساد طويلاً، ومفاده أن القدرة التعبويّة في الشارع المصري (والعربي عامة) مقتصرة على الإسلاميين، وأن لا حضور شعبياً لغيرهم من الاتجاهات السياسية. وقد أظهرت الملايين التي نزلت إلى الشوارع ضد «الإخوان» تهافت هذا التقدير، ولو أن التمييز يبقى ضرورياً بين القوى المنظَّمة، حيث ما زال التفوّق كبيراً لصالح الإسلاميّين، وبين الجمهور العريض غير المنضوي في تشكيلات حزبية، حيث المزاج العام يرفض كل مغالاة سياسية، بما فيها مغالاة تديين السياسة أو تسييس الدين. الملاحظة الثالثة على العلاقة بما يمكن اعتباره تقييماً سياسياً وإعلامياً واجتماعياً قاسياً للتجربة الإخوانية في حكم مصر، فالإخوان لم يتسّلموا السلطة فعلياً لأكثر من عام واجهوا خلاله أزمات جلّها نتيجة أوضاع عقود أو سنوات سبقت انتخابهم. وواجهوا كذلك انتظارات وآمالاً كبرى بالتغيير الإيجابي، كلاسيكية في المراحل التي تلي الثورات مباشرة، أصيب معظمها بنكسة نتيجة التعثّر السياسي والاقتصادي. ويمكن بالطبع القول إن ما بدا على الإخوان من سلوك استئثاري وغرور، ومن ضعف أداء ومقاربات تبسيطية للمشاكل والتحدّيات، صعّبت تقبّل قطاعات واسعة من الرأي العام، لبطء تبدّل الأمور ولتتابع الأزمات، وهذا بالطبع غذّى المعسكر المعارض أو المعادي لهم ووسّعه. على أن قضية أخرى تمكن إضافتها إلى قصة تقييم فئات من المصريّين للأداء الإخواني، وهي قضية على صلة بالأبعاد الطبقية وبالأصول الريفية لأكثرية الإخوانيين التي ينظر إليها بعض الجماعات المدينية بريبة تلامس حدود الاحتقار. ولعلّ جوانب أساسية من السخرية التي ووجه بها مرسي ارتبطت بسلوكه الشخصي وبركاكته اللغوية وب «تنميط» اجتماعي طاوله وزوجتَه، وطاول أيضاً نخباً إخوانية انتقلت من السجون ومن الخطابة في مساجد قرى وأحياء شعبية إلى نوادي سلطة سبق للمظاهر «الحداثوية» (وأحياناً البورجوازية) أن احتلّتها لعقود، وهذا كلّه قدَّم لعدد من البرامج الترفيهية ومواقع التهكّم مادةً دسمة تخطّت في كثير من الأحيان السياسة وتقييم أداء مرسي ضمنها، وخلقت مناخاً عاماً يرى في الرئيس مصدر مهانة لموقع الرئاسة نفسه. الملاحظة الرابعة تضعنا في قلب السجال حول ما يسمّى «الفشل الإسلامي في السلطة». وقد تزايدت الكتابات في هذا الاتّجاه، على اعتبار الانتفاضة الشعبية العارمة ضد مرسي والإخوان دليلاً على وصول مشروع الإسلام السياسي إلى حائط مسدود. لكن يفيد في هذا السياق التوقّف عند مسألتين: الأولى هي اعتبار أن ثمّة مشروعاً فعلياً للإسلام السياسي. والثانية هي المدى الزمني الذي يسمح بإبرام حكم على هكذا مشروع، إن وُجد. في المسألة الأولى، لا يبدو الكلام على مشروع سياسي مستنداً إلى معطيات دقيقة أو إلى برامج ورؤى اقتصادية تتيحه. فالإخوان -وهم المقصودون هنا- لم يقدّموا مشروعاً اقتصادياً، وليس لهم، ولا لغيرهم، برامج مالية وضريبية مختلفة عن السائد، كما أنهم لم يعرضوا فلسفة للحكم تختلف عن الفلسفة الدستورية (رئاسية أو برلمانية) المعتمدة، ولم يبلوروا سياسة خارجية أو علاقة بالدول والمؤسسات المانحة عميقة الاختلاف عن السياسات القائمة، وجُلُّ ما يحملونه ويحمله غيرهم من الإسلاميين من تمايزات يرتبط ببعض التشريعات الاجتماعية وبالهاجس المركزي عندهم: المرأة، وهذا -في أي حال- نقاش يستحق الاستفاضة، وليست وظيفة هذا النص الخوض فيه. بذلك لا يبدو أن مشروعاً إسلامياً فعلياً نُفّذ (أو هو موجود) ليُتاح الحكم عليه. وحتى لو أن المقصود هو ادّعاء الإسلاميين ملكهم لحلول وبدائل عمّا ساد في الحقبات السابقة منذ الاستقلالات الوطنية، وحتى لو قالوا إنهم في سيرة الأسلاف يجدون زادهم القِيَمي وثقافة حاكميّتهم، فلا يمكن اعتبار وجودهم في السلطة عاماً واحداً كافياً لإطلاق الأحكام بالفشل أو بالنجاح، ولو أن المؤشّرات بأكثرها تميل إلى احتمالات فشلهم في إدارة مصر لأسباب موضوعية وذاتية، كون الأوضاع والظروف معقّدة، وكونهم قوى معارضة متمرّسة وليسوا ذوي خبرات حكم تؤهّلهم لحسن الإدارة السياسية والاقتصادية. الملاحظة الخامسة متّصلة مباشرة بالقضية الديموقراطية وبالانقلاب الذي نفّذه الجيش وعزل على أثره رئيساً منتخباً واعتقله. ولا ينبغي هنا الهروب من التشخيص ومن اعتماد المصطلحات المناسبة لهذا التشخيص، فالتظاهرات الضخمة التي قامت والحشد الشعبي غير المسبوق في أي من التواريخ المصرية السابقة، ضد حكم مرسي لا تغيّر من كون إجراءات الجيش (بدءاً من توجيه وزير الدفاع الجنرال السيسي إنذاراً إلى مرسي والى جميع القوى السياسية للاتفاق خلال 48 ساعة، مروراً بتحليق الطيران الحربي والمروحيّات وانتشار الدبابات في مفاصل المدن الكبرى، وصولاً إلى اقتحام مقرّ الرئيس وعزله واعتقاله ثم إقفال بعض الوسائل الإعلامية وتوقيف عدد من العاملين فيها ومنع قيادات إخوانية من السفر و «الطلب» إلى القضاء التحرّك ضدها) هي انقلاب عسكري موصوف ولو تذرّع بالتجاوب مع الهبّة الجماهيرية وهلّل له بعض الحشود. على أن ما هو أهمّ من الاستمرار في السجال حول التوصيف، هو المسار الذي ستتّخذه الأمور في المقبل من الأسابيع والأشهر، وموازين القوى التي ستفرض التسويات والمقايضات وحدود الدور الذي ستلعبه المؤسّسة العسكرية في تحديد ذلك وشكل المواجهة المقبلة مع «الإخوان». في المحصّلة، يمكن القول إن «جمالية» المشهد الشعبي في 30 يونيو ودلالاته التي احتُفي بها لا تكفي لتغطية مشهد آخر شديد التعقيد. مشهد سياسي يحتلّ العسكر جانباً منه، ويحتلّ الإخوان المسلمون الجانب الآخر، وكأنّنا في ذلك نعود إلى تلك المعادلة/ الثنائية الابتزازية التي لطالما استخدمها الاستبداد الحاكم لتبرير ديمومته ومنع التغيير، على أنها هذه المرّة تأتي في ظروف مختلفة تماماً ليس فقط لما يرافقها من حراك شعبي هو من أبرز إنجازات الثورات العربية، بل أيضاً لأنها تأتي بعد انتخابات برلمانية ثم رئاسية حرّة نسبياً هي الأولى في تاريخ مصر، وفاز فيها «الإخوان». وسنجد أنفسنا قريباً أمام سرديّة «مظلومية إخوانية» تستعيد سوابق مصرية وعربية (جزائرية وفلسطينية)، ويمكن إن اشتدّ النزاع معها واستمرّت حالة شيطنتها ونزع الأنسنة عن معتنقيها (بما يبرّر أحياناً العنف والقمع ضدّهم) أن ينحو بعض مكوّناتها نحو المزيد من التطرّف والتشدّد ونبذ العملية السياسية، فيتهدّد استقرار مصر برمّته. المسار المصري إذاً مسار قد يزداد في المقبل من الأيام تعقيداً، وضمانتا بقاء «الشارع» مؤثّراً وقادراً على التعبئة والضغط والتغيير السلمي هما عدم توسّع الصدام بين الجيش والإخوان، وعدم نسيان أن سيطرة «العسكر» على السياسة لا تقلّ خطورة على الديموقراطية من تجاوز أي حكم منتخب حدودَ التفويض الممنوح له، إنْ باسم الدين أو باسم الدنيا. * كاتب لبناني