من المفارقات ان تكون طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني تستعد لعقد «لقاء جامع للإعلان عن الثوابت الوطنية» في اليوم الذي شهدت أسواقها وأحياؤها الداخلية مواجهات مسلحة بين مجموعات متطرفة والجيش اللبناني. اللافتات التي تستقبل الزائر على طول الطريق المؤدي الى المدينة، ولا تودعه قبل وصوله الى عمق ريفها العكاري، مستعرضة شعارات مثل «الاسلام والارهاب لا يلتقيان»، و «طرابلس مدينة للجميع» تشي بطموح أهلها ورغبتهم العميقة في النأي بأنفسهم عن واقع بات لصيقاً بهم. فبعد نحو 25 جولة قتال بين أبناء باب التبانة السنّة، وجيرانهم في جبل محسن العلويين، والتي امتدت على فترة سنتين وأكثر، جاءت اليوم المواجهة المباشرة مع المؤسسة العسكرية وسط حالات انشقاق لمصلحة «جبهة النصرة». وإذ تبدو طرابلس متنازعة بين أحياء راقية تريدها فعلاً مدينة الاعتدال والعيش الواحد، وأزقة فقيرة متروكة لبؤسها وحرمانها، وتلاعب اجهزة وإرهابيين بها، يسمع صدى المعارك مدوياً في قرى عكار. فهذا الريف السنّي المحاصر بين طرابلس وحمص السورية، خزان مقاتلين على الجبهتين: جبهة الجيش اللبناني الذي ترفده المنطقة بجنود وأخيراً جنديات، وجبهة التنظيمات المتطرفة التي وجد كثيرون فيها متنفساً لاحتقانهم الطائفي. والى هذا وذاك، يضاف الى مخاوف الاهالي وهواجسهم «طابور خامس» يمثله اللاجئون السوريون الموجودون بكثافة في كل المناطق العكارية. وتقول سيدة متقدمة في السن: «لم تمر علينا ايام كهذه. حتى خلال الثورة (1958) كنا نصل الى ارضنا، ونقضي شؤوننا، أما الآن فبتنا نخاف ان نخرج من منازلنا بعد الغروب».وإذ راحت الاجيال الاكبر سناً تستعيد فجأة أحداث 1958، التي شهدت احتكاكاً طائفياً مسلحاً بين مسلمين ومسيحيين، استحضرت الاجيال الشابة لغة طائفية تجعل كل قرية سنّية «متهمة حتى يثبت العكس» بالنسبة الى القرى المسيحية والعلوية المجاورة. وبدا ان العلاقات الاجتماعية ذاهبة الى مزيد من التصدع. هكذا مثلاً، بدا سكان بلدة شهدت انشقاق جندي الاسبوع الماضي وانضمامه الى «جبهة النصرة»، في احراج لم يعرفوا كيف يتخلصون منه فعمدوا الى تكثيف واجبات التهنئة والعزاء، فيما حول آخرون مسارهم، تفادياً لعبور بلدات بعينها. فالاختلاط الكبير في تلك المنطقة، يجعل البلدات مفتوحة على بعضها بعضاً، فتتجاور في الاراضي الزراعية وتتقاسم طرق العبور باتجاه المدينة. والواقع ان قرى عكار، فرضت على نفسها حظر تجول طوعياً. فحتى قطاف الزيتون الذي يعد ركيزة اقتصاد السكان وحركتهم المشتركة في هذه الفترة من السنة، اختصر بما تقتضيه الأوضاع الأمنية. كل العائلات معلّقة على الهواتف الخليوية وخدمة «واتساب»، تطمئن من خلالها على الأبناء الجنود، حتى إذا ما انقطع الانترنت في اليوم الاول للمعارك بضع ساعات، دبّ الذعر في أوصال الامهات. وتقول سيدة تواكب تحركات زوجها الجندي على الهاتف: «استدعي الجميع. كل شباب البلدة ذهبوا والتحقوا بمراكزهم... حتى المجندات! ابنة الجيران حامل، ولم تنجح في البقاء في منزلها». وفيما اعلن أمس عن عودة الهدوء الحذر الى بعض المناطق، وفتح طريق عكار- طرابلس، بقي عبور ساحات المعركة تلك مقتصراً على أصحاب الحاجة والضرورة... على طلاب وموظفين وبعض المرضى ممن تركوا خلفهم مدينة قالت انها «للجميع».