لأنها الرياض، ولأنها المدينة التي نشأت وترعرعت بين حواريها وأزقتها، وحفظتها عن ظهر قلب، ولأنها الحكايات التي خرجت منها بروايتيّ «مفارق العتمة» و«ثلاثية ضرب الرمل»، مصوراً فيهما كل الثرثرات التي لا تزال معلقة على حيطان أزقتها المنسية، وكل الوجوه التي اختمرت بالذاكرة، وكل الأسماء والصفات والأحداث الصغيرة التي جدلت منها حبكاتي الروائية، لكل ذاك العبق الذي لا يزال متفشياً من أرواح من رحلوا وأنفاس من ظلوا على قيد الحياة، من أجل كل ذلك لم تكن الرواية وحدها الباعث لي على إحياء الماضي والخوف من تدمير شواهده، بل استعنت بالمقالة لرفع عريضة الشكوى مما قد تؤول إليه أحوالها. وكتبت هنا في هذه الزاوية أكثر من مقالة عن الرياض بشيء من الحنين والخوف والأسى على ذاكرتنا المنسية، كتبت يوم عُين الأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز، ونائبه الأمير تركي بن عبدالله، مقالة بعنوان «الرياض بين أميرين»، أعقبتها بمقالة أخرى بعنوان «الرياض القديمة»، اقترحت فيهما الالتفات بجدية للمناطق القديمة التي اندرجت في قائمة الأحياء العشوائية بعدما شهدت المدينة خلال 50 عاماً ماضية توسعاً تاريخياً مددها باتجاه الصحاري المحيطة بها لتدخل في حيز المدينة بشكل حضاري لم يسبق له مثيل، حتى أصبحت مداخل الرياض من جهاتها الأربع بمثابة الإشعارات الأولى للنهضة الكبيرة التي تشهدها المملكة العربية السعودية من خلال عاصمتها «الرياض» في كل المجالات. في مقالة «الرياض القديمة» ألمحت إلى خطورة الأحياء الشعبية العشوائية المكدسة بالعمالة الوافدة وضرورة الإسراع في إعادة تأهيلها، لم يكن يدور في خلدي أن ثمة إرادة أخرى مسؤولة وواعية تستشعر هذا الهمّ حتى وقعت بين يدي مجلة الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض «تطوير»، العدد «68»، 1434ه، لأرى، وما يسر الخاطر ويبهج القلب، تقريراً مطولاً ومصوراً تحت عنوان «خطة لتحويل قلب الرياض إلى مركز إداري – اقتصادي – ثقافي - وطني»، ما يعني أن كل ما كنت أكتبه هنا عن الرياض وأحيائها القديمة والقلق الذي يجتبيني حيالها هو أصلاً يقع نصب عيني أمير الرياض ورئيس الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض الأمير خالد بن بندر، وهنا مكمن المسؤولية الحقيقية الجادة والمثابرة للعمل بما يخدم الوطن والمواطن وتحمل تبعات ومشقات ذلك مهما بلغت صعوبته. برنامج تطوير وسط الرياض الذي شمل، وفقاً للمخططات الجوية والمساحية، حي العمل وثليم والصالحية والمرقب والعود وغبيرا والمربع والفوطة والديرة والقرى وجبرة والوسيطا ومعكال والدويبية والشميسي وأم سليم والوشم، وهذه الأحياء هي الرياض القديمة وهي مساحات شاسعة لا يستهان بها، والعمل على تطويرها ليس بالأمر الهين من حيث الوقت والكلفة والجهد، إلا أن الهيئة تدرك جيداً الفرصة التاريخية السانحة للقيام بذلك، خصوصاً أنها وضعت تصوراتها أن تشتمل الخطة المحافظة على التراث العمراني والثقافي، والمحافظة على الأنشطة التجارية القائمة، وزيادة فرص العمل، والتنويع في أنماط المساكن، وتحقيق التوازن الاجتماعي والسكاني، والتوسع في المناطق المفتوحة، وتعزيز الأمن الحضري، وتحسين شبكة الطرق والمرافق العامة في كل المناطق، وتطوير منظومة النقل من قطارات وحافلات، هذه الخطة حال الانتهاء منها ستكون من أهم المعالم التاريخية والتراثية والسياحية لمدينة الرياض. وهذا سيعد إيذاناً بتدشين مرحلة تاريخية وحضارية من نوع مختلف ستعيد الناس الذين تركوا ماضيهم وراءهم ظهرياً، وهم اليوم بمسيس الحاجة إلى الخروج من حيز القلاع الأسمنتية والواجهات الزجاجية التي تجهر الأبصار إلى حيث البيئة الطبيعية التي تعيد إلى الأرواح فطريتها المنسية بين كل مبالغات المظاهر الحديثة. ما لفتني أيضاً في هذه الخطة التطويرية اهتمامها بالبُعدين الثقافي والترفيهي، وقد خصصت لهذه الجوانب الإنسانية كل من الظهيرة والدحو ومنطقة قصر الحكم ومنتزه سلام؛ فقط ما أود أن ألفت نظر الهيئة إليه البعد الإنساني المستقبلي المتمثل في إنشاء دور ثقافية شاملة يمكن من خلالها ممارسة الفنون على اختلافها، ما يدعو إلى ضرورة إنشاء مسارح وصالات عروض سينمائية وفنون تشكيلية ومكتبات مصغرة للعائلة، وذلك استجابة لمتطلبات المدينة المستقبلية وانفتاحها على العالم بكل صوره وتحولاته. نشكر للأمير هذا التوجه الخلاق بإعادة الروح الطبيعية إلى مدينتنا القديمة من خلال هذه الخطة التطويرية الجبارة التي تشي بمرحلة انتقالية جديدة للعاصمة، خصوصاً ونحن نشهد بداية انفراجات كثيرة من المشاريع القائمة، وكلنا شوق لأن تتكحل أعيننا بحول الله وقوته بهذه الاستكمالات التطويرية التي ستغير من مذاق حياتنا وحياة أبنائنا بعدما أصبح شبه المستحيل ممكناً على أيدي المخلصين البررة من أبناء هذا الوطن. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] @almoziani