الحرب الحقيقية التي تخوضها مصر حالياً هي حرب مقاطع الفيديو وتغريدات «تويتر» وتدوينات «فايسبوك» وتقارير الفضائيات وعويل المذيعين والرسائل النصية القصيرة والعنكبوتية الطويلة، ومن ثم إعادة تدويرها ونشرها كما هي أو مع قليل من الإضافات وكثير من التعديلات، لتحط النتيجة على رؤوس الجميع: قتلى ومصابين وفتنة وفرقة! الفرق المختلفة التي تفترش الشوارع تأييداً للرئيس المعزول - الذي دعا على معارضيه وربط شرعيته بالدم أو اعتراضاً عليه - تتقاذفها أمواج الكذب والتدليس والتدوينات المؤدلجة والتغريدات المحرضة والصور الكاذبة والبيانات المتدفقة والأخبار غير المؤكدة والتأجيجات الحارقة والدعوات المنفّرة. ولم يعد الأمر يقتصر على مواقع التواصل الاجتماعي حيث الكثير من الحرية التي لا ترتبط ارتباطاً طردياً بالصدقية، لكنه تعداها ليصل إلى قنوات تلفزيونية وصحف ومواقع خبرية كان يفترض فيها احترام المهنية وإعمال المواثيق الأخلاقية. ويمكن القول إن الغالبية المطلقة من قنوات الإعلام التقليدي دخلت هذا النفق المظلم طواعية، إما لتنفيذ خطط وطنية، أو لإفساد تلك الخطط الوطنية، أو لتفعيل مخططات دولية، أو لإبطال تفعيل تلك المخططات الدولية. فمن قنوات أميركية عُرفت على مدى سنوات باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاطلاع على أحداث جسام ومتابعة مجريات مؤلمة بينما تحدث وقت كان ذلك عملة صعبة في الإعلام العربي، لكنها آثرت أن تكون طرفاً في الصراع الجاري في مصر، إلى قنوات تلفزيونية بريطانية انتهجت النهج نفسه تعضدها صحف عريقة اعتمدت في كثير من تغطياتها على قناة «الجزيرة» وما تبثه من تقارير وتحليلات يصفها البعض ب «عدم التوازن» و «الانحياز لجماعة «الإخوان المسلمين» وحلفائها منذ صعود نجم الإسلام السياسي، يضرب المصريون كفاً بكف متعجبين من مواقف مثل تلك القنوات والصحف بالأمس القريب حين هللت وطبلت وهنأت المصريين بسقوط حكم الرئيس السابق و «استقبال مصر لفجر جديد»! الفجر الجديد الذي تستقبله مصر حالياً هو فجر مشتت مبعثر قابل للتفاؤل وعرضة للتشاؤم، وذلك بحسب الزاوية والفصيل والانتماء والتوجيه الذي يتم استقباله فيها. بحر الأكاذيب الهادر الذي يصارع أمواجه المواطن المصري حالياً لا يتوقف. فمن الأمواج ما تدفع في طريق تقديس دور الجيش في تحقيق الإرادة الشعبية المصرية في التخلص من حكم الجماعة وحلفائها من الجماعات الدينية المختلفة، وهي تتجسد في التركيز على ما يجري في ميادين الثورة الشعبية المنقلبة ضد الدكتور محمد مرسي، دوناً عن ميادين التأييد! ومن الأمواج ما يدفع في طريق شيطنة الجيش والتقليل من شأن الملايين المصرة على إنهاء حكم الجماعة التي وضعت أمن مصر القومي والداخلي في خطر شديد وانحازت لمصالحها على حساب المصريين، بحسب خصومها، فتجد الكاميرات لا تنقل سوى مجريات ميادين التأييد مختزلة مصر فيها. مثل هذا التوجه يعني كذلك بث الأخبار وتحليلها في ضوء ما يتعرض له المتظاهرون «السلميون» من مؤيدي الدكتور محمد مرسي من ترويع وهجوم. ويتطلب ذلك بالمرة اقتطاع كل ما يرد من أسلحة مختلفة وهجوم من قبل أولئك المؤيدين على العمارات السكنية لاعتلائها أو استفزاز قوات التأمين حتى تكتمل الصورة الموجّهة إلى مؤيدي الداخل والخارج، سواء من أنصار الحكم الإسلامي لرفعة كلمة الإسلام أو من أنصار الحكم الإسلامي لتنفيذ مخططات دولية تحت شعار الشرعية. الشرعية التي لا تخلو منها تدوينة أو تغريدة يكتبها أفراد أو جماعات اللجان الإلكترونية من قبل الجماعة وحلفائها نشطت كما لم تنشط من قبل. كمّ مذهل من الأخبار غير المحققة وغير المثبتة يتم تداولها على سبيل التأجيج وإشعال نيران الفتنة، تارة ضد الجيش، وتارة ضد الشرطة، وتارة ضد المواطنين غير المؤيدين للدكتور محمد مرسي. وهو تأجيج تدور رحاه عبر التشجيع على النزول إلى الشارع للدفاع عن الإسلام الذي يتعرض لهجمة شرسة، أو بنشر صور بعضها مأخوذ من الحرب الدائرة في سورية، والبعض الآخر من أحداث شهدها اليمن، والبعض الآخر من وقائع جرت في بنغلادش. ومع تداخل الحق والباطل، وتطويع الصورة لتتواءم والرغبات، وتغيير الواقع ليصب في مصلحة الغايات، واللعب على أوتار العواطف بالدماء والقتل يكتسي المشهد المصري بلون رمادي قبيح، وتنوء الشاشات بضبابية مقيتة، وتنضح التدوينات بطائفية كئيبة، وتنطق التغريدات بتحريضات دموية ويتضاءل حجم الحقيقة وتتضخم مساحة الكذب. ويبدو المشهد أقرب إلى الخيال غير العلمي حين تتواتر طلبات لمصريين مقيمين في الخارج على متن «فايسبوك» و «تويتر» تناشد الأهل والأصدقاء - كل فصيل على حدة - إرسال ما لديهم من مقاطع مصورة أو صور فوتوغرافية لإرسالها بدورهم إلى الصحف ومحطات التلفزيون في الدول المقيمين فيها لإثبات حقيقة ما يحدث في مصر، الذي هو إما انقلاب عسكري على شرعية أول رئيس مدني منتخب أو انقلاب شعبي عليه. يحدث هذا في العام ال 13 من الألفية الثالثة المعروفة ب «عصر تقنية المعلومات» وزمن المعلومات دون حدود وعهد «غوغل إيرث» والأقمار الاصطناعية القادرة على نقل «دبة النملة بينما تدب»! لكن النملة تدب، والأحداث تتواتر، والتحريض يتزايد، والكذب يتفاقم، والحياد يتضاءل والمصريون ينتظرون فجراً جديداً يحمل إما خبراً يقينياً بزوال غمة الفرقة أو تدوينة خبيثة تعمل على تعميق حجم الغمة.