من 42 سنة، وأنت تحلم بالفرح، وجاءت «فرح» الجميلة بعد طول انتظار. بعدما فرغ الصبر وفقدت كل أمل في أي فرح ولدت فرح؟ جاءت إلى دنيا الخراب والعدم. تأتيك رنة الهاتف المحمول، وأنت مسطول وكالعادة مبروك يا جاسر. الدخان الأزرق منتشر في كل مكان من حولك، حتى بجانب كرسيك الذي يهتز وقت جلوسك في أول العربة في بورسعيد، تهاتفك حماتك: مبروك يا عمري، مبروك يا «جاسر». «ليلة» حامل؟ طفرت الدموع من عيني لتؤكد ضعفي ورهافتي. شهران، وثلاثة، وسبعة، وثمانية، «وليلة» حامل، وأنت تدقق في ملامحها التي تتغير على الدوام، بطنها المتكور، ونثار العرق على وجنتيها وجبينها وقتما كانت تترجل، بل تجري وتهرول تنفيذاً لتوصيات طبيب النساء والتوليد. الفرح اقترب يا «جاسر». تتزوج يا «جاسر». لا تتزوج. وتزوجت. قعدة صالونات ولقاء عابر وحلم مزهو «بالعنطزة» من الشاب الثلاثيني الهوائي، وما أدراك ما هوى «الجوزاء». وما أقساها ليلة يا «جاسر»، وباركها الجميع بتحفظ ما، وأنت ما زلت تأمل في مواصلة «الزفة». اقترب موعد الزفاف، بعدما عقدتَ القران يا ولدي. تضحك في نفسك. ما هذه المأساة. تضحك، ثم تبكي ثم تلهو. تعاود التدخين. والليلة فرحك يا «جاسر» على «ليلة»، ليلتك سعيدة. سعيدة مباركة. تضحك وتسخر من نفسك ومن ليلة طويلة عشتها في نهار حقيقي في انتظار إتمام المراسم. - مبروك يا عريس «دُخلتك» الليلة. وفاتت الساعات دقائق عندما بدأ الفرح الحقيقي. كنا في تموز (يوليو) أو آب (أغسطس). لا أذكر. المهم كان الزفاف، في ليلة صيف، على «ليلة». انصرف المعازيم، وعدت إلى مسكن لا تعرفه. الفراش غريب عن جسدك. روحك غريبة في المكان. تحاول أن تعيش لتكمل الفرح. «ليلة» مجهدة، أو تتدلل؟ تسعة أشهر وأربعون سنة. لا 42 سنة، وأنت تريد أن تفرح وتسأل نفسك أتريد أن تفرح بنفسك أم تريد أن تفرح بالحياة، وهل الحياة مفرحة؟ تسعة أشهر ويومان وثلاثة، وستة، و «ليلة» في انتظار المولود. الدكتور قال بنت يا «جاسر» (والله بنت يا حسين). و«خيركم من بكر بأنثى». رنة موبايل، وتقول «آلو» يسألك المذيع المرموق: ما هو الحدث الجديد الذي تنتظره في عيد ميلادك الواحد والأربعين؟ - أنتظر ولادة «ليلة» اليوم أو غداً. - وما هو جنس المولود إن شاء الله؟ - يقولون بنت. حماتي أكدت لي ذلك. – مبروك يا أستاذ جاسر، وماذا تريد أن تقول لمولودك المنتظر بعد ساعات؟ - أقول أنا في انتظارك يا فرح. وجاءت فرح كتلة لحم حمراء غير واضحة المعالم. ثمة زرقة وشحوب في الوجه الصغير. في تموز ولدت فرح في بورسعيد. أتت إلى دنيا العذاب الدائم! - مبروك «أبو البنات». - أنت الذكر الوحيد في عائلة عبدالرحيم، الذي بكّر بأنثى. - رزقك واسع. وأنا أردد في نفسي: رزقك واسع وعمرك قصير، وشعرك سقط من رأسك يا مسكين وأنت لسه شباب، اشرب يا راجل، فاضل كتير على النهار. - صفقن له يا بنات. وصفقت البنات، وزغرد الرجال، وحضنتُ ابنتي فرح، أربعة أشهر والبنت صارت قمراً. - تشبهين أباك يا فرح. وطلاّت من سنين أفلتت من عمرك يا جاسر، تحديقات في وجه الصغيرة، تشبه من؟ أبي، أمي، جدي؟ تشبه عمرك وتلونك وتناقضاتك، وبريق عينيك وقت الفرح والحزن وانتظار المصائب. وتردد السؤال على نفسك وأنت عائش في الحقيقة. - تحب فرح، أم تحب «ليلة»؟ ليست هناك إجابة فاصلة. في عيد ميلادها الأول، وقبل أن يطفئوا الشموع تتوه مع صوت الشيخ ياسين التهامي، وتبكي بجد وتتذكر عمرك الفائت، وعمر أبيك الضائع هباءً، وحبك لجدّك الخالد، ودهشة «فرح» تدعوك لاستنطاق حواسك مع وعي بين، أنت سعيد بزواجك، سعيد بالتقائك «ليلة» زوجتك، أم أنك سعيد ب «فرح»؟! «فرح» صارت ملح الأرض بعدما زادت كآبتي في أعوامي الأخيرة وأمي الصدّيقة تقول: كأنك حزين، كأنك مفارق، لماذا تنظر الى ابنتك هكذا؟! - تحبها يا «جاسر»، الولد أصابه مس من جنون، له ست ساعات يرقص، وكأنه يزّف نفسه. رقص «جاسر» ولف ودار حول نفسه، وأطال السفر مع الشيخ التهامي، قبل أن ينتبه إلى صوت ما يهمس في نفسه، في أذنه، لا يذكر على وجه التحديد كيف أتاه يقين بغتة، ليبلغه بأن «الزفّة» لم تنته بعد، وأن الفرح متصل وكل يوم يأخذ شكلاً آخر، وكل سنة يزيد الأمل في فرح حقيقي... يكمل فرحته بابنته، و«ليلة». ابنته التي لا يعرف حتى كتابة هذه السطور لماذا ينتابه شعور دائم مع كل غفوة، في منامه، وصحوه، في نهاره وليله، في تفاصيل حياته كافة، ليقول في وعيه: أشعر أنها ستموت بعد أيام أو شهور من دون أن ترى فرحي بنفسي، فرحي بوجودها في حياتي وبوجودي في حياتها. بات يردد في نفسه وبعد طول انتظار لفجر تأخر كثيراً (42 سنة) «الزفة» طالت وما زلت تحلم بالفرح. أتت «فرح» فاختلطت عليك الأمنيات. كم كنت أنانياً يا «جاسر». لا كنت حالماً. كنت عدمياً. فشلت في استغلال ال «فرح» وتهت في «الزفة». مسطول، أناني ورأيتني أردد في نفسي كم أنت قاسية يا «ليلة» وكم أنت بعيد يا فرح.