«حساب الطاولة الرقم 4»، قطع صوتها العذب رتابة أحاديث المكان منبهاً المحاسب ليعد فاتورة الطاولة، ولافتاً نظر رجل مسن يجلس الى طاولة مجاورة برفقة جريدة. «ايييه»، تنهد العجوز بسعادة وأومأ للنادلة بيده فابتسمت وبادرت: «قهوتك المعتادة ستكون جاهزة خلال دقائق سيدي»، بادل الرجل النادلة بابتسامة أوسع وهز رأسه موافقاً برضى.بسمة في العشرينات من عمرها، تركت قريتها الصغيرة والتحقت بكلية الإعلام في جامعة دمشق. تعمل نادلة بدوام جزئي في مقهى في حي أبو رمانة الراقي، وذلك كي تستطيع إعالة نفسها وتخفيف عبء مصاريف إقامتها ودراستها عن أهلها المتوسطي الحال. حال بسمة كحال غيرها من الشابات السوريات اللواتي لم يجدن مهرباً من اقتحام سوق العمل في سن مبكرة ليستطعن التعايش مع غلاء المعيشة المتزايد يوماً بعد يوم... منهن من تعمل لإعالة أسرة عاجزة، ومنهن من تجد في العمل استقلالية مغرية وتجربة تحمل الكثير من الخبرة والقوة وصقل النفس، وهناك أيضاً اللواتي يرين في عمل الصبايا موضة حلوة و «كوول» كما تؤكد فاديا، وهي فتاة في العشرين من عمرها تنتمي الى اسرة ميسورة الحال، لكنها، بهدف خوض التجربة، آثرت العمل في احد المقاهي المعروفة، وهو جزء من سلسلة عالمية لا يرتادها سوى أبناء الطبقة الميسورة. ترتدي فاديا يومياً مئزر العمل الموحد فوق فستانها الباهظ الثمن، وتقف خلف «الكاشيير» (الصندوق) لتلبي الطلبات بنعومة أنامل لم تعرف الشقاء يوماً. «سمح لي أهلي بأن أعيش هذه التجربة الجميلة والمثيرة خلال فترة الاستراحة من الدراسة وفي أشهر الصيف فقط»، تروي فاديا بحماسة، وتضيف: «أنا فعلاً ممتنة لهم، فقد أصبحت مميزة بالفعل بنظر الكثير من أصدقائي، أشعر وكأنني أعيش كبطلة مسلسل أجنبي مشوق، هذه التجربة فعلاً واو». ويختلف الوضع كثيراً بالنسبة الى بنات الطبقات الأدنى اللواتي اضطررن للعمل في مقاه أو مطاعم أكثر شعبية ولساعات طويلة تحت ضغط الحاجة المادية. «هذه الفرصة الوحيدة التي توافرت لي للعمل بدوام جزئي مسائي»، تؤكد طالبة جامعية تعمل نادلة في احد مطاعم دمشق القديمة يومياً من الخامسة وحتى التاسعة ليلاً. وتضيف يائسة: «أستغل النهار للدراسة وفترة بعد الظهر للعمل، على رغم التعب الجسدي الذي أعانيه، إلا أنني راضية وأشكر الله كل يوم على هذه النعمة، فترة وستمضي، سأتخرج في الجامعة قريباً وعندها سأجد عملاً أفضل وأترك هذه البهدلة». اقتحمت الفتاة السورية ميادين عمل كانت لعقود حكراً على الشبان ومن المحرمات على السيدات، فهي اليوم نادلة ومندوبة مبيعات تطرق الأبواب من بيت لآخر، هي أيضاً سائقة تاكسي ومديرة معمل ومهندسة مشرفة على ورش العمل وغيرها من الوظائف والمهن التي بدأت تفتح رويداً رويدأ أمام الفتيات السوريات. «يحتكرن معظم فرص العمل»، يقول طارق خريج كلية التجارة والاقتصاد، ويضيف بتذمر: «المصارف تفضل الفتيات ورقّة الفتيات، الأعمال الإدارية من نصيب الفتيات، أعمال التسويق على اختلاف أنواعها أيضاً، أما نحن فالبطالة على أبو جنب، ليس أصعب من توظيفنا ولا أسهل من الاستغناء عنا، بل والموضة الجديدة اليوم هي اتجاه كل الشركات الخاصة لمراعاة نسب عادلة في التوظيف بين الشبان والفتيات، نحن من أصبح الطرف المظلوم وليس هن». ويجد أصحاب عمل أن الفتيات أكفأ من الشبان في مجالات كثيرة من خدمة الزبائن وبيع الألبسة إلى الأعمال الإدارية والمكتبية وما شابه، وذلك «لما تمتلكه الفتاة من أنوثة وذوق ولباقة». لكن قسماً آخر لا يزال يرى في توظيف الفتاة «وجع راس» لا يأتي إلا بالمشاكل فيفضل الشبان على «غلاظتهم». «النظرة مختلفة وليست عادلة»، تقول مايا، وهي طالبة تعمل في محل بيع ألبسة نسائية، وتتابع بإصرار: «نظرة أصحاب العمل للفتاة نظرة استهلاكية تعتمد على الظاهر وتتجاهل المضمون والكفاءات، وعلى رغم أن الشبان قد يعانون أكثر ليجدوا فرصة عمل ملائمة ولكن على الأقل هم يتوظفون لكفاءتهم من دون أي اعتبار آخر، أصحاب الأعمال هنا لا يثقون بالفتاة لتسلم المهام والمسؤوليات الكبيرة ولا حتى الأعمال الاستشارية. ثم إذا كان مظهر الفتاة الخارجي لا يساعدها فعلى جميع الفرص السلام». وبين من يشجع ومن يستنكر ومن يحلل، تعيش كثيرات من الفتيات السوريات يومياً واقع العمل هذا الذي وإن كان يحمل بين طياته انفتاحاً وتحرراً، لا يزال يسبب الكثير من التعب والظلم. «أعمل نادلة حانة»، تقول أمل، ابنة أحد الأحياء الشعبية الفقيرة في دمشق، وتتابع بحنق: «منذ أن توفي أبي اضطررت لترك المدرسة والبحث عن عمل كي أعيل أمي وأخوتي الصغار، لم يستقبلني إلا صاحب حانة معروفة في المدينة. في البداية كان صعباً كثيراً أن ألبي طلبات الزبائن وهم يتراقصون أمامي بجنون. أتحمل غلاظة هذا ومضايقة ذاك. أما اليوم فأنا أقوى وأصلب وقد أصبحت «معلمة» في المصلحة، وأصبحت الحانة فرحاً في حياتي، يكسبني عيشي ويعطيني استراحة يومية من الواقع المؤلم الذي أعيشه وأسرتي». «بسمة»، صاح صوت الرجل المسن مرة ثانية متذمراً من تأخر قهوته. وسارعت بسمة النادلة الصغيرة لتحضر القهوة وتضعها بحذر على طاولة العجوز. «يسلملي هالوش»، همس الرجل في أذن الفتاة التي سارعت لسحب أصابعها النحيلة من بين يدي العجوز الخشنة وقد تلقفت يد الفتاة مع فنجان القهوة، ابتسمت بسمة بهدوء وعادت إلى عملها.