ما يقوم به رجب طيب أردوغان وحزبه يشبه فعل زعماء آخرون، سواء في العالم العربي أو في أوروبا، عبر اكتساح رأس المال السياسي للمؤسسات ومحاولته تطويع القوانين والتشريعات بما يتناسب وتلك المشاريع. هذا ما اتّهم به رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في بداية تسعينات القرن الماضي، أو ما اتّهم به رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني أو رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد، علماً أن المقارنة بين تلك التجارب تقتضي التحفّظ الشديد بسبب شدّة الفروق بينها. غير أن خوف الأتراك من أسلمة الدولة، في ضوء الشعارات المرفوعة في ساحات المدن التركية، يمثّل الوجه الآخر للتحفّظات التي رفعها علمانيو تركيا وهم يدافعون عمّا تبقى من إرث «الأتاتوركية» التي تلفظ أنفاسها تباعاً، بعد تصفية مواقعها ومؤسساتها الموروثة من القضاء الى الجيش الى الأحزاب والنقابات. وقد لا تكون مفاجئة «رعونة» أردوغان في ردّه على الاحتجاجات، فالرجل لم يدخل المعترك السياسي بالأمس، وأغلب الظن أنه يدرك حدود الاعتراض ومداه، كما يدرك توازن قوته السياسية الداخلية مع القوى الأخرى. من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل ارتداد سياسة حكومة أردوغان الخارجية على الوضع الداخلي وقوة موقعه فيه، إن لجهة حملها راية الدفاع السياسي السني في المنطقة عن القضية الفلسطينية بعد انكفاء دول الخليج العربي وإرساء توازن مع الدفاع العسكري الشيعي الإيراني الحزب اللهي عنها، أو لجهة موقفها الداعم للمعارضة السورية ضد النظام العلوي الاستبدادي الحاكم في دمشق، وصولاً إلى موقعها الاستراتيجي السياسي والعسكري بالنسبة إلى الغرب والولاياتالمتحدة. أمام هذا المشهد، كيف يمكن النظر الى موقع تركيا ودورها في السياسة الأميركية تجاه المنطقة؟ وما هي الأسس التي تحكم علاقات واشنطنبأنقرة اليوم انطلاقاً من تلك القراءة للأحداث التي تعيشها تركيا اليوم؟ أدت المتغيرات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط خلال ثمانينات القرن العشرين، إلى زيادة إحساس أميركا بأهمية تركيا الإستراتيجية وارتبطت معها بشبكة من علاقات التعاون الإستراتيجي في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، تجلت في «اتفاقية دفاع مشترك» في كانون الثاني (يناير) 1980 وذلك خارج نطاق منظمة حلف شمال الأطلسي. وتلقت أنقرة بموجب الاتفاقية مساعدات اقتصادية وعسكرية أميركية، ساهمت بدعم مركز الثقل التركي في معادلات توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط. تركيا في نظر أميركا ويمكن اختصار رؤية الولاياتالمتحدة تاريخياً لأهمية تركيا بالنقاط الآتية: أولاً، الإفادة من الأهمية الاستراتيجية للموقع الجغرافي لتركيا لقربها من ثلاثة من أهم مراكز التوتر، أي منطقة القوقاز في آسيا الوسطى، ومنطقة البلقان، ومنطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط. ثانياً، استغلال القواعد العسكرية التركية في الحرب الأميركية على الإرهاب، بوصفها قاعدة ارتكاز تنطلق منها القوات الأميركية، لا سيما إن لتركيا حدوداً مع إحدى دول محور الشر (إيران)، وإحدى الدول العربية المارقة (سورية). ثالثاً، استخدام ورقة المياه التركية في ممارسة المزيد من الضغوط على الدول العربية المجاورة. رابعاً، الاعتماد على تركيا في وضع الترتيبات الشرق أوسطية المقبلة. خامساً، تعزيز علاقات التعاون الإستراتيجي التركي - الإسرائيلي. وسادساً، اعتبار تركيا نموذجاً للإسلام المعتدل في ظل استمرار اعتماد تركيا الإسلامية للنظام الاقتصادي الرأسمالي الحر. وتتمثل أهم دوافع تركيا لإقامة علاقات التعاون الإستراتيجي وتطويرها مع الولاياتالمتحدة الأميركية في الآتي: أولاً، اعتبارات الأمن القومي التركي خصوصاً تجاه التهديدات الروسية. ثانياً، رغبة تركيا في الحصول على المساعدات الاقتصادية والعسكرية الغربية بشروط تفضيلية. ثالثاً، ضمان الدعم الأميركي المتواصل لانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. رابعاً، المحافظة على التوازن الدولي والإقليمي تجاه علاقات تركيا مع اليونان. وخامساً، التطلعات التركية إلى تأدية دور إقليمي فاعل في منطقة الشرق الأوسط وفي أوروبا. انطلاقاً من هذا الوصف السريع للعلاقات التركية الأميركية، هل ان السياسة الأميركية المتبعة اليوم تجاه أنقرة تساعد أو تنسجم مع أهداف الاحتفاظ بموقع تركيا في خريطة التحالفات الإقليمية والدولية ؟ يطيب للبعض اعتبار أن الإسلام السياسي الذي يحكم تركيا يُشكّل نموذجاً للإسلام المعتدل، الأمر الذي قاد ويقود كثيرين الى محاولة قراءة هذه التجربة من منظار حداثي تصحّ مقارنته بالحداثة الغربية، انطلاقاً من خصوصية المجتمع التركي وتاريخيته التي حكمت في الوقت نفسه دولاً وأقاليم، امتدت من المحيط الأطلسي الى جبال الأورال في روسيا، ووصل تأثيرها الى الصين وبحرها. لا شك في أن الغرب عموماً والولاياتالمتحدة خصوصاً، تعاملا مع تركيا على امتداد الحقبة القريبة الماضية بشيء من الحذر، انطلاقاً من المعطى الذي مثّله وصول الإسلاميين إلى السلطة على أنقاض التجربة العلمانية بفسادها ومشكلاتها. لكنه تعامل يركز على كونها قاعدة عسكرية قوية في مواجهة إيران الخمينية، ويمتنع في الوقت نفسه عن قبول عضويتها كاملة في نسيج الاتحاد الأوروبي تحت حجج وذرائع، لطالما كان توفيرها ممكناً من أجل تأخير انضمامها إليه. ولعل إيجابية الإنجاز الاقتصادي الذي يُنسب الى «حزب العدالة والتنمية»، والذي ضاعف مرات عدّة حجم الناتج المحلي ومؤشر النمو خلال عقد واحد، كان محفزاً سياسياً للنظر إلى تجربة «إخوان» تركيا من زاوية أكثر إيجابية من باقي العالم الإسلامي. وشكّل، في الوقت ذاته، عامل اطمئنان للقوى الغربية إلى استمرار التزام تركيا أسس وقوانين الاقتصاد الرأسمالي الحر، إلى جانب استمرار تحالفها العسكري مع الولاياتالمتحدة والغرب عبر عضويتها في حلف شمال الأطلسي. وعلى رغم عدم استقامة علاقات تركيا الجيدة مع إسرائيل، لاسيما بعد حادث سفينة «مرمرة» التي كانت متجهة الى غزة عام 2010 ضمن قافلة «الحرية»، إلا أن التطورات جعلت أنقرة تتنبّه الى أهمية الحفاظ على علاقات جيدة مع تل أبيب. حادث السفينة كان مؤشراً إلى تغيير الخطاب السياسي التركي انطلاقاً من إسلاموية الدولة ومشروعها السياسي والإيديولوجي، الذي كان يحاول قيادة تيار إسلامي عريض يجري العمل على تدعيم أسسه رويداً رويداً تأسيساً على «النجاحات» التركية. لكن إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن المصالحة الإسرائيلية - التركية، يشكل نوعاً من تجديد الشراكة القائمة على وضوح المصالح بين الطرفين، وإدراك تركيا حجم التحديات والأخطار التي أثارتها وتثيرها الحرب في سورية. البعض اعتبر أن واشنطن «أهملت» أنقرة وتركتها تتلاطم مع أمواج الربيع العربي والأزمة السورية تحديداً، ما قاد في نهاية المطاف الى انكشاف تركيا الإسلامية وتراجعها تباعاً عن شعاراتها السياسية، لاسيما تلك التي أطلقتها في بدايات الربيع العربي واندلاع الأزمة السورية، ثم ارتدادها الى الدفاع عن أسس الدولة ووحدتها الكيانية. الولاياتالمتحدة التي تعي تلك الحقيقة، اعتمدت ولا تزال سياسة متعددة الجوانب مع تركيا وحاول وزير خارجيتها جون كيري أخيراً التعبير عن موقف متقدّم في النظر الى موقع تركيا مما يجري في المنطقة، عبر الإيحاء بأن سياسة بلاده في المنطقة لا تقوم فقط على تعزيز الدور الإسرائيلي وحماية النفط، بل وأيضاًَ على تأسيس علاقات شراكة متوازنة مع تركيا. غير أن انتقادات كثيرة يمكن توجيهها الى السياسة الأميركية الراهنة، إذ يُؤخذ عليها رؤيتها الضبابية لقضايا المنطقة عموماً، وليس فقط تجاه تركيا او حتى مصر مثلاً. فحتى الساعة، لا يمكن الجزم بوجود سياسة أميركية واضحة المعالم تجاه الإسلام الذي يوصف بالمعتدل، لأن العلاقات الجيدة لا تصنع وحدها السياسة. ولعل السياسة الغربية بعامة والأميركية بخاصة، تجاه ملف الأزمة السورية، تعطي صورة واضحة اليوم عن الأخطار والأثمان المتوقعة من أنقرة جراء استمرار المماطلة تجاه حسم الأمور في سورية. تلك السياسة التي لم تستطع منع إسقاط طائرة «الفانتوم» قبل أكثر من عام، أو منع تفجيرات مدينة الريحانية قبل شهرين تقريباً. انكشاف تركيا بهذا الشكل قد يكون من دوافع اندلاع الاحتجاجات الشعبية، لكنه يبقى غير كاف لتقويم الأسباب التي أعادت بشكل أو آخر، تسليط الضوء على المشكلات البنيوية التي تعانيها تركيا. * إعلامي لبناني