يعتبر كثيرون من مؤرخي العلم أن عصر الإغريق كان نقطة البداية أو مرحلة الانطلاق، إذ ازدهر بأعلام من وزن طاليس وأبقراط وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وهي أسماء ما زالت ترن في آذان المهتمين بالعلوم وشؤون حضارة الإنسان. في سياق مماثل، يصعب على باحث مُنصِف أن يغفل أمر المدنيّات القديمة التي سبقت العصر الإغريقي، بمعنى أنها حازت علوماً ومعارف مهمة سبقت زمن الإغريق. في المقابل، يصرّ بعض المؤرخين على أن تلك الحقبة تمثّل علماً مجهول النسب. ويستهل هؤلاء تاريخ العلوم بالعصر الحجري عندما صنع إنسان ذلك العصر أدوات وأسلحة، كما فكر في الهدف الذي كان يبتغيه من صنعها. ثم انتقل الإنسان من عصر الحجر إلى عصر المعدن، وعرف التعدين. وأنشأ أيضاً علم تشريح أعضاء الجسم في الإنسان والحيوان. ووفق الدكتور عبد الحليم منتصر، مؤلف كتاب «تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدّمه»، الذي صدر في القاهرة حديثاً ضمن سلسلة «الثقافة العلمية، مكتبة الأسرة»، لا يمكن أن تكون المدنية الإغريقية نشأت فجأة بمعزل من المدنيات الأخرى، كالبابلية والآشورية والفرعونيّة. ورأى منتصر أن هيرودوس الملقب بأبي التاريخ، أنصف هذه الحضارات بقوله: «معظم فلاسفة الإغريق القدامى أمضوا جانباً من حياتهم في مصر وبلاد النهرين». ويلفت الكتاب إلى أن الإسكندرية ظلت منارة للعلم والمعرفة قروناً عدّة، ثم سيطرت الحضارة العلمية الإسلامية مع اتساع رقعة الإمبراطورية العربية. ويشدّد على إضافات العلماء العرب في الطب والتشريح والكيمياء والمعادن والنبات والحيوان، التي جاءت على يد علماء من أمثال الزهراوي والرازي والجاحظ وجابر بن حيان وابن الطفيل وابن النفيس والإدريسي وابن خلدون وغيرهم. ويرى منتصر أن كلمة «علم» أُطلِقَت قديماً على المعارف العامة، ولكن الاستعمال الحديث للكلمة حدّد مدلولها وجعلها تختص بلون معين من المعارف، هو الذي يتضمن التجربة والمشاهدة والاختبار، بمعنى أنه يشمل ما يسمى الآن بالعلوم الطبيعية، كالكيمياء والجيولوجيا والفيزياء والرياضيات والفلك والنبات والحيوان، إضافة إلى تطبيقات هذه العلوم في الهندسة والطب والزراعة والصيدلة والبيطرة وغيرها. ويؤكد الكتاب أن كثيراً من النظريات العلمية الحديثة يمتد بجذروه إلى علماء العصر الإسلامي. ويُبرِز منتصر ملمحاً مهماً يتمثّل في ميل الفكر العلمي وقتذاك إلى غزارة الإنتاج، إضافة إلى نقل العلماء العرب من التراث الإغريقي وزيادتهم عليه، ما أدى إلى اعتراف واسع بفضلهم في النقل.