في أول أيلول (سبتمبر) 1969 كنت أسوق سيارة مرسيدس جديدة بمحاذاة شاطئ بحر الأدرياتيك عائداً الى بيروت من المانيا عندما سمعت وأنا أتنقل بين محطات الإذاعة على راديو السيارة عن بيانات من نقابات عمال وجمعيات وهيئات تهنئ بثورة الفاتح من سبتمبر، ونهاية الحكم الملكي. لم أكن سمعت بكلمة «الفاتح» بمعنى أول الشهر، وقررت أنها مغاربية لا مشرقية، واستبعدت المغرب ورجحت أن الثورة/ الانقلاب في ليبيا، وضاع صوت المحطة وعاد ولم أتأكد من أن ليبيا المعنية حتى كنت دخلت سكوبيه. كيف وصلت الى ملكية مرسيدس 300 جديدة؟ كنت طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت، وأعمل رئيس نوبة في وكالة الأنباء العربية، وقد قبلت منصب رئيس تحرير «الديلي ستار» وبقيت أشهراً أفاضل بين الوكالة والجريدة. وكالة الأنباء العربية كانت الاسم الإقليمي لوكالة رويتر (رويترز في ما بعد)، وهي بدأت في القاهرة وانتقلت الى قبرص خلال العدوان الثلاثي سنة 1956، واستقرت في النهاية في بيروت. وكنت أعرف صحافياً استرالياً اسمه كيث ديفس من عملي صيفاً قبل الجامعة في البحرين، فقدمني الى رئيس التحرير المحلي الياس نعواس، رحمه الله، على أساس انني صحافي «فلتة»، وبعد أن نجحت في امتحان ترجمة عملت سنة مترجماً وسنة محرراً، ثم أصبحت رئيس نوبة مسؤولاً عن الشرق الأوسط كله باستثناء القاهرة، فالوكالة البريطانية اعتبرت مصر من الأهمية أن يتبع فيها العمل لندن مباشرة. في 1969 قررت وكالة رويتر ان تدخل عصر الكومبيوتر، وان تبني قسم الاقتصاد فكان أن نجح هذا القسم نجاحاً مادياً هائلاً، وبعدما كانت الوكالة تعتمد في موازنتها على مساهمة الصحف البريطانية، كل حسب توزيعها، أصبحت شركة مساهمة، ومن أبرز شركات البورصة في لندن ونيويورك وغيرها. وهكذا كان وقررت وكالة رويتر سنة 1969 ان تلغي وكالة الأنباء العربية وأن تعمل باسمها، فصرفتنا جميعاً من العمل وأعطتنا تعويضات كما ينص القانون، ثم أعادتنا جميعاً الى العمل بالرتبة والراتب نفسيهما، ولكن مع وكالة رويتر. وما حدث أن عدداً قليلاً جداً من الموظفين لم يعد الى العمل لأن الكومبيوتر قام بمهمته، فثار هؤلاء وخاف الإنكليز، ودفعوا لكل منا ضعفي التعويض الرسمي، فكان ان وجدت وأنا لم أبلغ الثلاثين ان معي 35 ألف ليرة لبنانية، ما يكفي لشراء شقة في تلك الأيام، بالإضافة الى مرتبَيْ الوكالة والجريدة كل شهر. لم أشتر شقة، وانما استشرت بعض الأصدقاء وأُعطِيت اسم تاجر سيارات لبناني يقيم في فرانكفورت وعنوانه، فَطِرت الى هناك واشتريت السيارة التي حلمت بها طويلاً، وفي طريق العودة أخذت معي من مدينة بال السويسرية شابتين فرنسيتين، تعملان ممرضتين في غرينوبل (إلا أن هذه قصة أخرى ليوم آخر). شاطئ ما كان يوغوسلافيا على بحر الأدرياتيك من أجمل شطآن البحر الأبيض المتوسط، والمؤسف أن أكثر الناس سمعوا به بعد انهيار يوغوسلافيا والقتال التالي، وكنت أمر ببلدة اسمها زادار عندما سمعت خبر ثورة الفاتح من سبتمبر ما انساني جمال الشاطئ والجزر/ المدن المحاذية له لأركز على ليبيا بحكم المهنة. أقول للأخ العقيد معمر القذافي بعد 40 سنة من متابعة الشأن الليبي «كفاها الباري» فقد حان الوقت ليترجل عن فرسه. وقد اقترحت أمس وحدة بين مصر والسودان وليبيا، وأقترح اليوم أن يبدأ الأخ العقيد بطلب الوحدة من مصر، فتخرج بلاده الى نور القرن الواحد والعشرين. في تعاملي مع الخبر الليبي وقفت على الحياد طويلاً لعدم الحاجة الى موقف، وانتصرت لليبيا بعناد وإصرار بعد حادث طائرة بان أميركان سنة 1988، خصوصاً بعد الهجوم الأميركي الغادر سنة 1986 على بنغازي وطرابلس الذي أدى الى مقتل عشرات وجرح أكثر من مئتي مواطن. ولم أنتقد العقيد ونظامه إلا في السنوات الأخيرة بعد أن انقلب على نفسه وعلينا. وتوقفت بعد ان قلت ما أريد لأن ليس لي أي موقف شخصي من أي شيء في ليبيا. لا بد أن الأخ العقيد فعل لليبيا وبها كل ما أراد، وأنه جرب كل الأفكار الممكنة حتى لم تبق زيادة لمستزيد، وأصبح واجباً الآن ان يقوم بعمل بطولي يذكره له التاريخ، وأراه وحدة مع مصر والسودان فالدول الثلاث تكمل احداها الأخرى ويحتاج بعضها الى بعض. أربعون سنة منذ ذلك اليوم المشهود في زادار أقول عنها ما نقول في لبنان «تنذكر ما تنعاد» ثم أرجو أن يكون ختامها مِسْكاً بوحدة اقليمية تمسح ما تقدم من ذنوب العقيد وما تأخر.